الحمد لله.
وفرق المالكية بين الدم - وما معه من
قيح وصديد - وسائر النجاسات ، فيقولون : بالعفو عن قدر درهم من دم وقيح وصديد ،
والمراد بالدرهم الدرهم البغلي ، وهو الدائرة السوداء الكائنة في ذراع البغل ، قال
الصاوي : إنما اختص العفو بالدم وما معه ; لأن الإنسان لا يخلو عنه ، فالاحتراز عن
يسيره عسر ، دون غيره من النجاسات كالبول والغائط والمني والمذي .
وذهب الشافعية إلى العفو عن اليسير من الدم والقيح وما يعسر الاحتراز عنه وتعم به
البلوى ، كدم القروح والدمامل والبراغيث وما لا يدركه الطرف ، وما لا نفس له سائلة
، وغير ذلك ، والضابط في اليسير والكثير : العرف .
وأما الحنابلة فقد صرحوا بأنه لا يعفى عن يسير نجاسة ، ولو لم يدركها الطرف ، كالذي
يعلق بأرجل ذباب ونحوه ، وإنما يعفى عن يسير الدم وما يتولد منه من القيح والصديد ،
إلا دم الحيوانات النجسة ، فلا يعفى عن يسير دمها كسائر فضلاتها ، ولا يعفى عن
الدماء التي تخرج من القبل والدبر ; لأنها في حكم البول أو الغائط . وظاهر مذهب
أحمد أن اليسير ما لا يفحش في القلب" انتهى.
وانظر للفائدة: سؤال رقم : (221756).
ثانيا:
النجاسة اليسيرة ، إذا لم يمكن التحرز عنها، كخرء الفأرة : فإنه يعفى عنها في
الطعام عند الحنفية.
قال في "البحر الرائق" (1/241): " وفي المحيط : وخرء الفأرة وبولها نجس ، لأنه
يستحيل إلى نتن وفساد ، والاحتراز عنه ممكن في الماء ، وغير ممكن في الطعام والثياب
، فصار معفوا فيهما ا هـ" انتهى.
وفي "حاشية الشرنبلالي على درر الحكام" (1/47): " وخرء الفأرة إذا طحن في الحنطة :
جاز أكل الدقيق ما لم يظهر أثر الخرء فيه ، كما في الفتح" انتهى.
وفي "الدر المختار مع حاشية ابن عابدين" (6/732): " ( خبز وجد في خلاله خرء فأرة ،
فإن كان ) الخرء ( صُلبا : رمي به وأكل الخبز ، ولا يفسد ) خرء الفأرة ( الدهن
والماء والحنطة ) للضرورة ، ( إلا إذا ظهر طعمه أو لونه ) في الدهن ونحوه ، لفحشه ،
وإمكان التحرز عنه حينئذ . " انتهى.
والعفو عن مثل هذا هو قول في مذهب
أحمد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " وَيُعْفَى عَنْ يَسِيرِ النَّجَاسَةِ ، حَتَّى بَعْر
فَأْرَةٍ وَنَحْوِهَا ، فِي الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي
مَذْهَبِ أَحْمَدَ ، وَلَوْ تَحَقَّقَتْ نَجَاسَةُ طِينِ الشَّارِعِ ، عُفِيَ عَنْ
يَسِيرِهِ ، لِمَشَقَّةِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ .. وَمَا تَطَايَرَ مِنْ غُبَارِ
السِّرْجِينِ (هو الروث النجس) وَنَحْوِهِ ، وَلَمْ يُمْكِنْ التَّحَرُّزُ عَنْهُ :
عُفِيَ عَنْهُ ". انتهى من "الفتاوى الكبرى" (5/ 313).
وقال في "الإنصاف" (1/240): " .. ومنها ما قاله في الرعاية: يعفى عن يسير الماء
النجس ، بما عُفي عنه من دم ونحوه في الأصح. واختار العفو عن يسير ما لا يدركه
الطرف . ثم قال: وقيل: إن سقط ذباب على نجاسة رطبة ، ثم وقع في مائع أو رطب :
نَجُس، وإلا ، فلا ... وقيل: يعفى عما يشق التحرز منه غالبا.
واختار الشيخ تقي الدين العفو عن يسير جميع النجاسات مطلقا ، في الأطعمة وغيرها حتى
بعر الفأر. قال في الفروع: ومعناه اختيار صاحب النظم.
قلت: قال في مجمع البحرين: قلت: الأولى: العفو عنه في الثياب والأطعمة ، لعظم
المشقة ، ولا يشك ذو عقل في عموم البلوى به ، خصوصا في الطواحين ومعاصر السكر
والزيت ، وهو أشق صيانة من سؤر الفأر ومن دم الذباب ونجوه ورجيعه ؛ وقد اختار
طهارته كثير من الأصحاب ." انتهى.
ثالثا:
المستحلبات المأخوذة من أصل حيواني، إن أخذت من حيوان مأكول مذكى، فلا إشكال، وإن
أخذت من حيوان غير مأكول، أو غير مذكى، ثم عولجت حتى استحالت، فإنها تطهر وتحل
بذلك. وكذا لو كانت نسبة يسيرة مستهلكة.
والاستحالة: هي " تغير العين وانقلاب حقيقتها إلى حقيقة أخرى، كانقلاب السرجين
رمادا، وانقلاب الخمر خلا، والخنزير ملحا" انتهى من "المستخلص من النجس وحكمه في
الفقه الإسلامي" رسالة ماجستير للباحث نصري راشد سبعنّة، ص84.
والاستحالة مطهرة للنجس، عند جمهور
الحنفية، والمالكية، وجماعة من أهل العلم كابن تيمية وابن القيم.
جاء في " توصيات ندوة الرؤية الإسلامية لبعض المشاكل الطبية " ما يأتي :
" المواد الإضافية في الغذاء والدواء التي لها أصل نجس أو محرم تنقلب إلى مواد
مباحة شرعا بإحدى طريقتين :
1- الاستحالة :
ويقصد بالاستحالة في الاصطلاح الفقهي : " تغير حقيقة المادة النجسة أو المحرم
تناولها ، وانقلاب عينها إلى مادة مباينة لها في الاسم والخصائص والصفات "
ويُعبَّر عنها في المصطلح العلمي الشائع بأنها : كل تفاعل كيميائي يُحوِّل المادة
إلى مركب آخر ، كتحول الزيوت والشحوم على اختلاف مصادرها إلى صابون ، وتحلل المادة
إلى مكوناتها المختلفة ، كتفكك الزيوت والدهون إلى حموض دسمة و" غليسرين " .
وكما يحصل التفاعل الكيميائي بالقصد إليه بالوسائل العلمية الفنية يحصل أيضا -
بصورة غير منظورة - في الصور التي أوردها الفقهاء على سبيل المثال : كالتخلل
والدباغة والإحراق .
وبناء على ذلك تعتبر :
1-المركبات الإضافية ذات المنشأ الحيواني المحرم أو النجس التي تتحقق فيها
الاستحالة - كما سبقت الإشارة إليها - تعتبر طاهرة حلالَ التناول في الغذاء والدواء
.
2-المركبات الكيميائية المستخرجة من أصول نجسة أو محرمة كالدم المسفوح أو مياه
المجاري والتي لم تتحقق فيها الاستحالة بالمصطلح المشار إليه ، لا يجوز استخدامها
في الغذاء والدواء ، مثل : الأغذية التي يضاف إليها الدم المسفوح : كالنقانق
المحشوة بالدم ، والعصائد المُدمَاة ( البودينغ الأسود ) و( الهامبرجر ) المُدمَى ،
وأغذية الأطفال المحتوية على الدم ، وعجائن الدم ، والحساء بالدم ونحوها ، تعتبر
طعاما نجسا محرم الأكل ، لاحتوائها على الدم المسفوح الذي لم تتحقق به الاستحالة .
2- الاستهلاك :
ويكون ذلك بامتزاج مادة محرمة أو نجسة بمادة أخرى طاهرة حلال غالبا ، مما يُذهب
عنها صفة النجاسة والحرمة شرعا ، إذا زالت صفات ذلك المخالِط المغلوب من الطعم
واللون والرائحة ، حيث يصير المغلوب مستهلَكًا بالغالب ، ويكون الحكم للغالب ،
ومثال ذلك :
1- المركبات الإضافية التي يستعمل من محلولها في الكحول كميةٌ قليلةٌ جدا في الغذاء
والدواء ، كالملونات والحافظات والمستحلبات مضادات الزنخ .
2- (الليستين ) و ( الكوليسترول ) المستخرجان من أصول نجسة بدون استحالة ، يجوز
استخدامهما في الغذاء والدواء بمقادير قليلة جدا مستهلكة في المخالط الغالب الحلال
الطاهر .
3- الأنزيمات الخنزيرية المنشأ ، كـ " الببسين " وسائر الخمائر الهاضمة ونحوها ،
المستخدمة بكميات زهيدة مستهلكة في الغذاء والدواء الغالب " انتهى باختصار
والله أعلم.