الحمد لله.
أولا :
لا شك في صحة ما ذكر في السؤال ؛ أن الشيء الذي لم يحرمه الله تعالى، لا يجوز لأي إنسان أن يحرمه من تلقاء نفسه .
فالحكم على الأشياء حق خالص لله تعالى ؛ قال الله تعالى : إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ الأنعام/57 .
وحكم الله تعالى يشمل ما جاء به القرآن وما جاءت به السنة ؛ فعند الاختلاف يجب التحاكم إليهما ؛ قال الله تعالى : فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً النساء/59 .
والنبي صلى الله عليه وسلم قد نص على أن ما لم يحرمه الله تعالى وسكت عنه فهو عفو .
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّم: مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلالٌ ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ .
رواه الحاكم في " المستدرك " (2 / 375) وقال : " هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ " ووافقه الذهبي ، وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (1 / 171) : " رواه البزار والطبراني في الكبير، وإسناده حسن ، ورجاله موثقون " ، وحسنه الألباني في " سلسلة الأحاديث الصحيحة " (5 / 325) .
ولهذا نص أهل العلم على أنّ " الأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد دليل على التحريم " .
قال السيوطي رحمه الله تعالى :
" الأصل في الأشياء الإباحة، حتى يدل الدليل على التحريم .
هذا مذهبنا ، وعند أبي حنيفة : الأصل فيها التحريم حتى يدل الدليل على الإباحة.
ويظهر أثر الخلاف في المسكوت عنه.
ويعضد الأول قوله صلى الله عليه وسلم ( ما أحل الله فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ، فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئا ) أخرجه البزار والطبراني من حديث أبي الدرداء بسند حسن ... " انتهى، من "الأشباه والنظائر" (ص 103) .
وأدلة الكتاب والسنة متضافرة على صحة هذه القاعدة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" اعلم أن الأصل في جميع الأعيان الموجودة على اختلاف أصنافها وتباين أوصافها : أن تكون حلالا مطلقا للآدميين ، وأن تكون طاهرة لا يحرم عليهم ملابستها ومباشرتها ومماستها .
وهذه كلمة جامعة ، ومقالة عامة ، وقضية فاضلة عظيمة المنفعة ، واسعة البركة ، يفزع إليها حملة الشريعة ، فيما لا يحصى من الأعمال ، وحوادث الناس ، وقد دل عليها أدلة عشرة - مما حضرني ذكره من الشريعة – وهي : كتاب الله ، وسنة رسوله ، واتباع سبيل المؤمنين المنظومة في قوله تعالى : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) وقوله : ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ) ، ثم مسالك القياس ، والاعتبار ، ومناهج الرأي ، والاستبصار " . انتهى من "مجموع الفتاوى" (21 / 535) . .
ثانيا :
لكن مما يجدر الانتباه إليه ؛ هو أنّ دلالة نصوص الوحي على تحريم الأشياء ليست منحصرة فقط في ظواهر ألفاظ هذه النصوص ، بل من المعلوم والمقرر في " أصول الفقه " أن دلالات النصوص على الأحكام متعددة فقد تكون عن طريق ظاهر النص ، وقد تكون عن طريق العموم ، وقد تكون من طريق خفي كدلالة الموافقة والمخالفة، ونحو ذلك من وجوه الدلالة.
ثم قد يقرر أهل العلم حكم الشيء قياسا، وإلحاقا له بنظيره، والقياس من الأدلة الشرعية المقررة عند جماهير أهل العلم، وعوامهم.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى :
" ولكن مما ينبغي أن يعلم: أن ذكر الشيء بالتحريم والتحليل مما قد يخفى فهمه من نصوص الكتاب والسنة ، فإن دلالة هذه النصوص قد تكون بطريق النص والتصريح ، وقد تكون بطريق العموم والشمول ، وقد تكون دلالته بطريق الفحوى والتنبيه ، كما في قوله تعالى: ( فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ) ، فإن دخول ما هو أعظم من التأفيف من أنواع الأذى يكون بطريق الأولى ، ويسمى ذلك مفهوم الموافقة .
وقد تكون دلالته بطريق مفهوم المخالفة ، كقوله: ( في الغنم السائمة الزكاة )، فإنه يدل بمفهومه على أنه لا زكاة في غير السائمة ، وقد أخذ الأكثرون بذلك ، واعتبروا مفهوم المخالفة ، وجعلوه حجة .
وقد تكون دلالته من باب القياس ، فإذا نص الشارع على حكم في شيء لمعنى من المعاني ، وكان ذلك المعنى موجودا في غيره ، فإنه يتعدى الحكم إلى كل ما وجد في ذلك المعنى عند جمهور العلماء ، وهو من باب العدل والميزان الذي أنزله الله ، وأمر بالاعتبار به ، فهذا كله مما يعرف به دلالة النصوص على التحليل والتحريم .
فأما ما انتفى فيه ذلك كله ، فهنا يستدل بعدم ذكره بإيجاب أو تحريم على أنه معفو عنه " انتهى، من " جامع العلوم والحكم " (2 / 164 - 165) .
وبسبب تنوع دلالة النصوص على الأحكام وخفاء بعضها ، وبسبب تفاوت الناس في الأفهام وسعة العلم ؛ بسب كل هذا وغيره يقع الخلاف بين أهل العلم في أنواع من المسائل ، فتجدهم في الحكم على شيء ما يرى بعضهم أن النصوص قد دلت على حكمه، ويرى البعض الآخر أنه مما سكت عنه الوحي فهو من العفو .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" فإن جهات دلالات الأقوال متسعة جدا ، يتفاوت الناس في إدراكها ، وفهم وجوه الكلام بحسب منح الحق سبحانه ومواهبه ، ثم قد يعرفها الرجل من حيث العموم ، ولا يتفطن لكون هذا المعنى داخلا في ذلك العام. ثم قد يتفطن له تارة ثم ينساه بعد ذلك .
وهذا باب واسع جدا لا يحيط به إلا الله ، وقد يغلط الرجل ، فيفهم من الكلام ما لا تحتمله اللغة العربية التي بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بها ... " انتهى، من "مجموع الفتاوى" (20 / 245).
ثالثا:
هذا الذي قدمناه في تأصيل الباب، ينطبق على مسألة " تشقير الحواجب " ؛ فهي من المسائل المستجدة التي هي مجال لاجتهاد أهل العلم للبحث: هل تتناولها نصوص الوحي وتدل عليها بطريق ما من طرق الدلالات ؛ أو هي داخلة في نطاق الأشياء التي سكت عنها الشرع ، فيكون الأصل فيها الإباحة ؟
فأهل العلم الذين يرون تحريم " تشقير الحواجب " يعتقدون بأنه يتناوله أحد نصين :
النص الأول : حديث النهي عن النمص ؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ ، قَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ الوَاشِمَاتِ وَالمُوتَشِمَاتِ وَالمُتَنَمِّصَاتِ وَالمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ ، المُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ . فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ ، فَجَاءَتْ فَقَالَتْ: إِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ ، فَقَالَ: وَمَا لِي أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَنْ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ . فَقَالَتْ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ ، فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا تَقُولُ . قَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ ، أَمَا قَرَأْتِ: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ؟ قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ "رواه البخاري (4886)، ومسلم (2125).
والنمص: هو نتف شعر الحاجبين من أجل الحصول على حاجب رقيق فيه نوع حسن وجمال ، لأن النمص يحمل معنى نتف ، ويحمل معنى الشعر الرقيق .
قال ابن فارس رحمه الله تعالى :
" (نَمَصَ) النُّونُ وَالْمِيمُ وَالصَّادُ أُصَيْلٌ يَدُلُّ عَلَى رِقَّةِ الشَّعْرِ أَوْ نَتْفٍ لَهُ .
فَالنَّمَصُ: رِقَّةُ الشَّعْرِ " انتهى، من "معجم مقاييس اللغة" (5 / 481) .
والتي تقوم بتشقير حواجبها، تنتهي إلى نفس مظهر المتنمصة، ويتحقق بعملها، نفس معنى "النمص" المنهي عنه ، "والنمص" المنهي عنه ليس لفظا مجردا مجهول المعن، أو فارغ المضمون، ولذلك ألحقه به من ألحقه من أهل العلم.
سُئلت "اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء":
" انتشر في الآونة الأخيرة بين أوساط النساء ظاهرة تشقير الحاجبين، بحيث يكون هذا التشقير من فوق الحاجب ومن تحته، بشكل يشابه بصورة المطابقة للنمص، من ترقيق الحاجبين ...
فأجابت : تشقير أعلى الحاجبين وأسفلها بالطريقة المذكورة: لا تجوز؛ لما في ذلك من تغيير خلق الله سبحانه، ولمشابهته للنمص المحرم شرعا ، حيث إنه في معناه.
ويزداد الأمر حرمة إذا كان ذلك الفعل تقليدا وتشبها بالكفار ، أو كان في استعماله ضرر على الجسم أو الشعر ، لقول الله تعالى: ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) وقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا ضرر ولا ضرار ) .
وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
صالح الفوزان ، عبد الله بن غديان ، عبد العزيز آل الشيخ " انتهى . "فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" (24 / 103 – 104) .
فالخلاصة ؛ أن دلالة النصوص الشرعية على الحكم على شيء ما: أوسع من مجرد ذكر الشيء بلفظه، أو اسمه الخاص به؛ وإنما هناك دلالات أخرى كدلالة مفهوم الموافقة والمخالفة والعموم والقياس وغيرها .
وقد سبق بيان اختلاف أهل العلم في مسألة "التشقير"، وهل هو مباح، ويفرق بينه وبين النمص المنهي عنه، أو هو في معنى النمص المحرم، على قولين لأهل العلم. فينظر جواب السؤال رقم (49017).
والله أعلم