هل طبيعي في المسلم أن تشق عليه الطاعة مشقة عظيمة لا يقدر على فعلها لخلل في قلبه من جبن مثلا أو غيره فيقول في نفسه لو عرفت الله حق المعرفة لتمكنت من فعل هذه الطاعة بكل سهولة ، و هذا حق ، فيبدأ رحلته في معرفة الله بالنّظر في الكون ليزداد إيمانه ، ولكن مع ذلك تبقى تلك الطاعة شاقة عليه ، فيصيبه الحزن الشديد كونه عاجز وجبان ، و لكن قُذف في قلبي أنّ النظر في الكون وحده وفي نعم الله غير كاف بل لابد من الدّعاء لأنّه سرّ التوفيق ومفتاحه ، فهل هذا الكلام الّذي أعزّي به نفسي صحيح؟ أرجو الجواب بدقّة ؟
الحمد لله.
التوفيق للطاعات والشعور بلذتها له أسباب كثيرة، من أعظمها ما ذكرت من معرفة الله ومحبته ودعائه.
1-ومعرفة الله تعالى لا تحصل بالنظر في آياته المشاهدة فحسب، بل تحصل أيضا بالنظر في آياته الشرعية المقروءة، وذلك بتلاوة كتابه، وتدبره، والنظر في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم التي هي وحي منه تعالى.
فكلما أدمن العبد النظر في آيات الله مع التدبر والتفهم؛ امتلأ قلبه من حبه، ومعرفته، والإقبال عليه، فيزيد بذلك إيمانه ويقينه، وهذا يسهل عليه العبادة مهما بدت شاقة، ولهذا بذل الصالحون أرواحهم ومهجهم في سبيل الله تعالى.
قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) الأنفال/2- 4
وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: هيا نؤمن ساعة، فيذكرون الله تعالى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " كان معاذ بن جبل يقول لرجل: اجلس بنا نؤمن نذكر الله تعالى.
وروى أبو اليمان: حدثنا صفوان عن شريح بن عبيد ، أن عبد الله بن رواحة كان يأخذ بيد الرجل من أصحابه ، فيقول: قم بنا نؤمن ساعة، فنحن في مجلس ذكر" انتهى من مجموع الفتاوى (7/ 225).
2-وكلما تأمل العبد في آيات الله الكونية؛ امتلأ قلبه تعظيما وإجلالا لله، ولهذا دعانا الله لهذا النظر والتفكر. قال تعالى: ( وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) الذاريات/21.
قال قتادة رحمه الله: من تفكر في نفسه ، عرف أنما لينت مفاصله للعبادة.
وقال تعالى: ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) الأنعام/75.
وهذا يدل على أن النظر في الآيات الكونية يزيد الإيمان واليقين.
قال الإمام أبو بكر ابن العربي المالكي رحمه الله: " أمر الله تعالى بالنظر في آياته، والاعتبار بمخلوقاته في أعداد كثيرة من آي القرآن، أراد بذلك زيادة في اليقين، وقولا في الإيمان، وتثبيتا للقلوب على التوحيد.
وقد روى ابن القاسم عن مالك؛ قال: قيل لأم الدرداء: ما كان أكثر شأن أبي الدرداء؟ قالت: كان أكثر شأنه التفكر. قيل له: أفترى الفكر عملا من الأعمال؟ قال: نعم. هو اليقين.
وقيل لابن المسيب ، في الصلاة بين الظهر والعصر؟
فقال: ليست هذه عبادة؛ إنما العبادة الورع عما حرم الله ، والفكر في أمر الله.
وقال الحسن: تفكرُ ساعة خير من قيام ليلة" انتهى من أحكام القرآن (2/ 351).
3- ومن أسباب زيادة الإيمان، والإقبال على الله تعالى، والفرح والأنس بعبادته: نظر العبد في نعم الله عليه في نفسه وأهله وماله، فذلك يثمر المحبة، ويدعو للشكر، ويخفف العبادة ويسهلها على النفس.
وكلما زادت محبة العبد لربه، شعر بلذة العبادة.
قال ابن القيم رحمه الله: " المحب يتلذذ بخدمة محبوبه ، وتصرفه في طاعته، وكلما كانت المحبة أقوى ، كانت لذة الطاعة والخدمة أكمل، فليزن العبد إيمانه ومحبته لله بهذا الميزان، ولينظر هل هو ملتذ بخدمته ، كالتذاذ المحب بخدمة محبوبه ، أو متكرِّه لها ، يأتي بها على السآمة والملل والكراهة؟ فهذا محك إيمان العبد ، ومحبته لله.
قال بعض السلف: إني أدخل الصلاة فأحمل هم خروجي منها ، ويضيق صدري إذا عرفت أني خارج منها .
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( جعلت قرة عيني في الصلاة ) . ومن كانت قرة عينه في شيء ؛ فإنه يود أن لا يفارقه ، ولا يخرج منه ؛ فإن قرة عين العبد : نعيمه ، وطيب حياته به.
وقال بعض السلف: إني لأفرح بالليل حين يقبل، لما يلَذُّ به عيشي ، وتقر به عيني ، من مناجاة من أُحب، وخلوتي بخدمته ، والتذلل بين يديه .
وأغتم للفجر إذا طلع، لما اشتغل به بالنهار عن ذلك !!
فلا شيء ألذ للمحب من خدمة محبوبه وطاعته.
وقال بعضهم: تعذبت بالصلاة عشرين سنة، ثم تنعمت بها عشرين سنة.
وهذه اللذة ، والتنعم بالخدمة ؛ إنما تحصل بالمصابرة ، على التكرُّهِ والتعب ، أولاً .
فإذا صبر عليه ، وصدق في صبره : أفضى به إلى هذه اللذة.
قال أبو يزيد: سقت نفسى إلى الله ، وهى تبكى، فما زلت أسوقها ، حتى انساقت إليه وهى تضحك!!
ولا يزال السالك عرضة للآفات ، والفتور والانتكاس ، حتى يصل إلى هذه الحالة .
فحينئذ ؛ يصير نعيمه في سيره ، ولذتُه في اجتهاده ، وعذابه في فتوره ووقوفه، فترى أشد الأشياء عليه ، ضياع شيء من وقته ، ووقوفه عن سيره .
ولا سبيل إلى هذا ؛ إلا بالحب المزعج" انتهى من طريق الهجرتين (2/697-698) ط عالم الفوائد.
4- ومن أعظم أسباب التوفيق والإعانة: سؤال الله تعالى ، والالتجاء إليه، وقد علّم النبي صلى الله عليه وسلم معاذا أن يقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
روى أبو داود (1522) والنسائي (1303) عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِهِ ، وَقَالَ : ( يَا مُعَاذُ ؛ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ فَقَالَ أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ ).
5-واعلم أنه لابد مع ذلك كله من الاجتهاد، والمثابرة، والصبر، فمن اجتهد وكابد ذاق لذة العبادة.
قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) آل عمران/200
وقال: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) العنكبوت/69
قال محمد بن المنكدر : كابدت نفسي أربعين عاماً حتى استقامت لي .
وقال ثابت البناني : كابدت نفسي على قيام الليل عشرين سنة وتلذذت به عشرين سنة.
6-ومن أعظم ما يعينه على علاج ذلك ، مداواة الشيء بضده ؛ فمن كان بخيلا ، فسبيله أن يجاهد نفسه على البذل ، ويحملها على الجود بما عندها ، وترك الشح ، رويدا ، رويدا . ومن كان جبانا ، عالجها على التصبر والشجاعة ، وحملها على قول الحق ، وعمله ، والتحمل في سبيله . ومن كان مهذارا ، كثير الكلام ، خواضا في الباطل ، أمسك لسانه ، وزمه ، وراقبه .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( مَا يَكُنْ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ لاَ أَدَّخِرْهُ عَنْكُمْ، وَإِنَّهُ مَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَلَنْ تُعْطَوْا عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ ) .
رواه البخاري (6470) ومسلم (1053) .
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، مَنْ يَتَحَرَّى الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ ) .
رواه الطبراني في الأوسط (2663) ، وغيره ، وحسنه الألباني .
7-ومن وسائل ذلك: ترك الذنوب والمعاصي، فإنها حجاب بين العبد وربه، وسبب من أسباب حرمان الرزق والخير.
قال رجل لإبراهيم بن أدهم : إني لا أقدر على قيام الليل فصف لي دواء ؟
فقال : لا تعصيه بالنهار ، وهو يُقيمك بين يديه في الليل ، فإن وقوفك بين يديه في الليل من أعظم الشرف ، والعاصي لا يستحق ذلك الشرف .
وقال رجل للحسن البصري : يا أبا سعيد : إني أبِيت معافى ، وأحب قيام الليل ، وأعِدّ طهوري ، فما بالي لا أقوم ؟
فقال الحسن : ذنوبك قيدتْك .
وقال رحمه الله : إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل ، وصيام النهار .
وقال الفضيل بن عياض : إذا لم تقدر على قيام الليل ، وصيام النهار ، فأعلم أنك محروم مكبّل ، كبلتك خطيئتك .
8- ومما يعين على الطاعة وييسرها: قراءة ما أعد الله لأهلها من الثواب الجزيل والأجر العظيم، ومطالعة سير الصالحين، والوقوف على عبادات المحبين، فانظر: الترغيب والترهيب، للمنذري، والمتجر الرابح في ثواب العمل الصالح، للدمياطي، وصفة الصفوة، لابن الجوزي، وسير أعلام النبلاء، للذهبي.
نسأل الله لنا ولك التوفيق والسداد .
والله أعلم.