الحمد لله.
روى أبو داود (39) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَدِمَ وَفْدُ الْجِنِّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ: اِنْهَ أُمَّتَكَ أَنْ يَسْتَنْجُوا بِعَظْمٍ أَوْ رَوْثَةٍ أَوْ حُمَمَةٍ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لَنَا فِيهَا رِزْقًا، قَالَ: فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ
والحديث صححه الألباني في صحيح أبي داود.
والحممة: الفحم.
قال الخطابي رحمه الله: " الحمم الفحم ، وما أحرق من الخشب والعظام ونحوهما، والاستنجاء به منهي عنه لأنه جعل رزقاً للجن ، فلا يجوز إفساده عليهم، وفيه أيضاً أنه إذا مس ذلك المكان وناله أدنى غمز وضغط ، تفتت لرخاوته ، فعلق به شيء منه متلوثاً بما يلقاه من تلك النجاسة وفي معناه الاستنجاء بالتراب وفتات المدر ونحوهما" انتهى من معالم السنن (1/ 27).
وقال العيني رحمه الله: " قوله: " أو حُممة " بضم الحاء المهملة، وفتح الميمين، وهي الفحم،
وما احترق من الخشب والعظام ونحوهما، وجمعها " حُمم ".
قوله: " فيها " أي: في العظم والروثة، والحُممة. وظاهر الحديث: أن رزقهم من هذه الأشياء، فلذلك منع النبي- عليه السلام- عن الاستنجاء بها، ولكون الروثة نجساً، والحُممة ليس لها ثبات فتفتت بالتماس" انتهى من شرح سنن أبي داود (1/ 133).
وقال الملا علي القاري رحمه الله: " في شرح السنة الحمم: الفحم وما احترق من الخشب أو العظام ونحوهما، والاستنجاء به منهي عنه لأنه جعل رزقا للجن فلا يجوز إفساده كذا نقله الطيبي .
وقوله: رزقا للجن أي انتفاعا لهم بالطبخ والدفاء والإضاءة" انتهى من مرقاة المفاتيح (1/ 394).
فتبين بهذا أن الحممة : الفحم ، وما احترق من الخشب والعظام ونحوها، وأن النهي عن الاستنجاء به لأن الجن ينتفعون به في الطبخ والتدفئة والإضافة، فلا يجوز إفساده عليهم، وأيضا لكونه يتفتت فيلوث المحل.
وأماالعظام، فإن كانت طاهرة أي مأخوذة من حيوان مذكى، فإنها تكون أوفر ما تكون لحما للجن. وإن كانت نجسة لم تصلح للاستنجاء والتطهير.
وأما الروث: فإن كان طاهرا، فإنه يكون طعاما لدواب الجن. وإن كان نجسا فإنه لا يصلح للتطهير.
وقد روى مسلم (450) من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ:
(أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ» قَالَ: فَانْطَلَقَ بِنَا فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ وَسَأَلُوهُ الزَّادَ فَقَالَ: " لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمْ).
واستنبط الفقهاء من ذلك أنه لا يجوز الاستنجاء بالطعام والزرع، لأنه إذا منعنا من إفساد الطعام على دواب الجن، فزادنا وزاد دوابنا أولى بالمنع.
قال في منار السبيل (1/ 17) : " [ويحرم بروث وعظم] لحديث سلمان المتقدم.
[وطعام ولو لبهيمة] لحديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام فإنه زاد إخوانكم من الجن" رواه مسلم. علل النهي بكونه زاداً للجن، فزادنا وزاد دوابنا أولى لأنه أعظم حرمة" انتهى.
ولا يخفى أنه يجوز لنا أن ننتفع بالعظام وبالروث، في استخراج الجيلاتين، وتسميد الزوع ، وغيرها، وكذلك يجوز الانتفاع بالطعام والزرع، والانتفاع بالفحم في الطبخ والتدفئة والصناعة وغير ذلك، كمعجون الأسنان والمنظفات وسائر وجوه الانتفاع. وإنما يمنع من تلويث هذه الأشياء بالاستنجاء ، وإفسادها على من ينتفع منها ، بذلك .
والله أعلم.