الحمد لله.
هذا القول منكر عظيم، وكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويخشى على صاحبه إن أصر عليه، وبيان ذلك كما يلي:
أولا:
المدحور هو المطرود، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج من مكة مطرودا، وإنما خرج بنفسه مهاجرا ، منصورا من الله تعالى .
وكانت قريش حريصة عند خروجه ألا يخرج، ووضعت لمن يرده ويأتي به الجوائز، بعد أن كانت تفكر أولا في إخراجه صلى الله عليه وسلم ، ثم عدلت عن ذلك خشية انتشار دعوته، فهاجر صلى الله عليه وسلم رغما عنها، ولم يكن حال خروجه مطرودا، صلوات الله وسلامه عليه.
وإنما نسب الله إخراجه من مكة للكفار، باعتبار أنهم ضيقوا عليه، وآذوه، ولم يمكنوه من تبليغ دعوة ربه فيهم ، حتى اضطر للهجرة، كما قال تعالى: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) التوبة/40
وقوله: (إِذْ أَخْرَجَهُ) متعلق بـ (نَصَرَهُ) فقد نصره الله تعالى وقت خروجه، فكان خروجه نصرا عظيما له، وغمّا لأعدائه.
قال ابن عطية رحمه الله في تفسيره: " وقوله " إذ أخرجه الذين كفروا " يريد فعلوا من الأفاعيل ما أدى إلى خروجه ، وأسند الإخراج إليهم ؛ إذ المقصود تذنيبهم .
ولما كان مقصد أبي سفيان بن الحارث الفخر في قوله : ( من طَرَّدْتُ كُلَّ مُطَرَّدِ ) ؛ لم يقرره النبي صلى الله عليه وسلم" انتهى من المحرر الوجيز (3/ 39).
وقال الطاهر بن عاشور رحمه الله: " ويتعلق (إذ أخرجه) بـ (نصره) ؛ أي زمن إخراج الكفار إياه، أي من مكة، والمراد خروجه مهاجرا.
وأسند الإخراج إلى الذين كفروا ، لأنهم تسببوا فيه ، بأن دبروا لخروجه غير مرة ، كما قال تعالى: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك) [الأنفال:30] ، وبأن آذوه وضايقوه في الدعوة إلى الدين، وضايقوا المسلمين بالأذى والمقاطعة، فتوفرت أسباب خروجه .
ولكنهم كانوا مع ذلك يترددون في تمكينه من الخروج ، خشية أن يظهر أمر الإسلام بين ظهراني قوم آخرين، فلذلك كانوا في آخر الأمر مصممين على منعه من الخروج، وأقاموا عليه من يرقبه ، وحاولوا الإرسال وراءه ليردوه إليهم، وجعلوا لمن يظفر به جزاء جزلا، كما جاء في حديث سراقة بن جعشم" .
إلى أن قال:
" (فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم).
التفريع مؤذن بأن السكينة أنزلت عقب الحلول في الغار، وأنها من النصر، إذ هي نصر نفساني، وإنما كان التأييد بجنود لم يروها ، نصرا جثمانيا.
وليس يلزم أن يكون نزول السكينة عقب قوله: (لا تحزن إن الله معنا) ؛ بل إن قوله ذلك هو من آثار سكينة الله التي أنزلت عليه، وتلك السكينة هي مظهر من مظاهر نصر الله إياه، فيكون تقدير الكلام: فقد نصره الله فأنزل السكينة عليه ، وأيده بجنود حين أخرجه الذين كفروا، وحين كان في الغار، وحين قال لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا. فتلك الظروف الثلاثة متعلقة بفعل (نصره) على الترتيب المتقدم . وهي كالاعتراض بين المفرع عنه والتفريع .
وجاء نظم الكلام على هذا السبك البديع ، للمبادأة بالدلالة على أن النصر حصل في أزمان وأحوال، ما كان النصر ليحصل في أمثالها لغيره ، لولا عناية الله به، وأن نصره كان معجزة خارقا للعادة" انتهى من التحرير والتنوير (10/ 201).
وبهذا يُعلَم أنه لا يجوز أن يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج طريدا من مكة؛ لأنه من الكذب، وباطل القول.
ويشبه هذا ما قاله العز بن عبد السلام رحمه الله جوابا لمن سأله: " هل يتوجه إنكار على من قال: إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه آوى النبي صلى الله عليه وسلم طريداً، وآنسه وحيداً، أم لا؟
فأجاب:
" من زعم أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه آوى النبي صلى الله عليه وسلم طريداً : فقد كذب .
ومن زعم أنه آنسه وحيداً : فلا بأس بقوله" انتهى من "فتاوى العز بن عبد السلام" (رقم/114).
وما أشار إليه ابن عطية من إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان بن الحارث قوله: ومن طردتُ كل مطرد، جاء مبينا في الطبقات الكبرى لابن سعد (4/ 52):
" ... كان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يهجو أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أسلم قال ...
لَعَمْرُكَ إِنِّي يَوْمَ أَحْمِلُ رَايَةً * لِتَغْلِبَ خَيْلُ اللَّاتِ خَيْلَ مُحَمَّدِ
لَكَالْمُدْلِجِ الْحَيْرَانِ أَظْلَمَ لَيْلُهُ * فَهَذَا أَوَانِي حِينَ أُهْدَى وَأَهْتَدِي
هَدَانِيَ هَادٍ غَيْرُ نَفْسِي ودلَّني ... على اللَّهِ مَنْ طَرَّدْتُ كُلَّ مُطَرَّدِ
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (بل نحن طردناكم)...
وَأَتَى أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلم وَابْنُهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ مُعْتَمَّيْنِ، فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَيْهِ، قَالَا: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم: أَسْفِرُوا تَعَرَّفُوا ، قَالَ: فَانْتَسَبُوا لَهُ وَكَشَفُوا عَنْ وجُوهِهِمْ، وَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: أَيُّ مُطَّرِدٍ طَرَدْتَنِي يَا أَبَا سُفْيَانَ، أَوْ مَتَى طَرَدْتَنِي يَا أَبَا سُفْيَانَ؟ قَالَ: لَا تَثْرِيبَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: لَا تَثْرِيبَ يَا أَبَا سُفْيَانَ " انتهى.
على أن الوصف بـ:"الدحر" : أقبح ، وأشنع من الوصف بالطرد ؛ لأمرين:
الأول: أنه ارتبط بوصف إبليس وأهل النار كما سيأتي.
الثاني: أنه يفيد الإبعاد مع الإهانة.
قال ابن جزي رحمه الله: " مَّدْحُوراً أي مُبعداً ، أو مُهاناً" انتهى من التسهيل، ص887
ثانيا:
أن قوله: خرج مذموما مدحورا. بالجمع بين هذين الوصفين، أمر في غاية القبح، والبطلان .
وذلك أن هذا الوصف إنما جاء في كتاب الله تعالى لإبليس ولأهل النار، وارتبط في أذهان الناس بذلك، فلا ريب في تحريم استعارته لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى في حق إبليس: (اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا) الأعراف/18، وقال: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا) الإسراء/18
والمذءوم هو المذموم.
فلو سلمنا صحة الوصف بالطرد ، باعتبار المفهوم العام للإخراج ، وأن الكفار ضيقوا عليه صلى الله عليه وسلم حتى خرج، فإن الجمع بين هذه الوصفين ، اللذين وصف الله بهما إبليس ، وأهل النار: أمر غاية في القبح والشناعة ، ولا ندري : ما مسوغه عنده ، وما الذي ألجأه إليه أصلا ، وأورده ذلك المورد ؟!
ثالثا:
أن الفقهاء منعوا من كل ما يُشعر بهضم جنابه صلى الله عليه وسلم، أو التنقص من حقه، أو منافاة التوقير والتعظيم له.
قال القاضي عياض رحمه الله: " وأفتى أبو عبد الله بن عتاب ، في عَشّار ، قال لرجل : أدِّ ، واشك إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وقال: إن سألت أو جهلت، فقد جهل وسأل النبي صلى الله عليه وسلم = [ أفتى ] : بالقتل.
وأفتى فقهاء الأندلس بقتل ابن حاتم ، المتفقه الطليطلى ، وصلبه ، بما شُهد عليه به من استخفافه بحق النبي صلى الله عليه وسلم ، وتسميته إياه أثناء مناظرته ، باليتيم ، وختن حيدرة ، وزعمه أن زهده لم يكن قصدا، ولو قدر على الطيبات أكلها ، إلى أشباه لهذا...
وقال القاضي أبو عبد الله ابن المرابط: من قال إن النبي صلى الله عليه وسلم هُزم : يستتاب ؛ فإن تاب ، وإلا قتل ؛ لأنه تنقص ، إذ لا يجوز ذلك عليه في خاصته ، إذ هو على بصيرة من أمره ، ويقين من عصمته.
وقال حبيب بن ربيع القروى: مذهب مالك وأصحابه : أن من قال فيه صلى الله عليه وسلم ما فيه نقص : قتل دون استتابة.
وقال ابن عتاب: الكتاب والسنة : موجِبان أن من قصد النبي صلى الله عليه وسلم بأذى ، أو نقص ، معرّضا ، أو مصرحا ، وإن قل : فقتله واجب.
فهذا الباب كله مما عده العلماء سبا ، أو تنقصا : يجب قتل قائله ، لم يختلف في ذلك متقدمهم ولا متأخرهم ، وإن اختلفوا في حكم قتله على ما أشرنا إليه ونبينه بعد .
وكذلك أقول: حكم من غمصه ، أو عيّره برعاية الغنم ، أو السهو أو النسيان أو السحر أو ما أصابه من جرح أو هزيمة لبعض جيوشه أو أذى من عدوه أو شدة من زمنه أو بالميل إلى نسائه فحكم هذا كله لمن قصد به نقصه: القتل، وقد مضى من مذاهب العلماء في ذلك ويأتي ما يدل عليه" انتهى من "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" (2/ 217).
وقال الدسوقي رحمه الله في ردة وقتل من قال: "هُزم أو هزمت جيوشه": " وإنما قتل قائل ذلك; لأن غاية ما هناك أن بعض الأفراد فر يوم أحد، وهذا نادر والنبي صلى الله عليه وسلم وغالب الجيش لم يفر".
وقال: "الذي عليه مالك وعامة أصحابه أن من قال : إن النبي هزم يقتل ولا تقبل توبته وهو المذهب. وظاهر الإطلاق: أي قَصَد القائل بذلك التنقيص أم لا. وإنما قتل; لأن الله عصمه من الهزيمة فنسبة الهزيمة إليه فيه إلحاق نقص به" انتهى من حاشية الدسوقي (4/ 310).
ولهذا فالواجب على هذا الخطيب أن يتوب إلى الله تعالى، وأن يعتذر عن خطئه، وأن يحذر الإصرار والمكابرة ، ومحاولة توجيه قوله.
نسأل الله أن يوفق الجميع لما يحب ويرضى وأن يقينا مضلات الفتن.
والله أعلم.