الحمد لله.
أولا:
زيارة القبور سنة مستحبة أمر بها؛ لما جاء من الترغيب فيها، كما في حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا) رواه مسلم ، وفي لفظ عند الترمذي (1054) : (فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ) .
وهذا إذا كان القبر في البلد، لا يحتاج إلى سفر وشد رحل.
والمقصود من الزيارة: الاتعاظ والاعتبار، والدعاء للميت.
والظاهر أن زيارة القبر ليست في نفسها "صلة رحم" ؛ فإن صلة الرحم إنما تكون للحي ، ومن ترك زيارة قبر قريب له : لا يقال إنه قاطع لرحمه ، ولا نعلم أحدا من أهل العلم صرح بذلك .
لكن هي من البر العام ، وفعل الخير ، وإن قيل إنها من صلة الرحم ؛ فذلك إنما يكون في الدعاء والاستغفار للميت من الأرحام ، وليس بنفس الزيارة .
وانظر: جواب السؤال رقم (163231) ورقم (137688).
ثانيا:
لا يجوز دعاء الميت، ولا طلب الشفاعة منه، سواء كان نبيا أو وليا.
أما دعاؤه نفسه ، والطلب منه هو، فشرك بالله .
وأما سؤاله الدعاء ، أو الشفاعة : فبدعة ، ووسيلة إلى الشرك، كما سبق يبانه في جواب السؤال رقم (153666).
وأما كون أهل البيت لهم قدرة على الشفاعة عند الله، فجوابه أن الميت لا يشفع لأحد، بل هو مشغول بنفسه، وقد انقطع عمله ، إلا مما جاء النص ببقائه كالعلم الذي ينتفع به، والصدقة الجارية، وليس من هذا أنه يدعو للناس أو يشفع لهم.
وأما يوم القيامة فإن الصالحين يشفعون، سواء كانوا من أهل البيت أو من غيرهم.
وفي حديث الشفاعة: (حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً لِلَّهِ فِي اسْتِقْصَاءِ الْحَقِّ، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ فِي النَّارِ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ، فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا قَدِ أَخَذَتِ النَّارُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ، وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ، فَيَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا، ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا أَحَدًا، ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا "، وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ يَقُولُ: إِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي بِهَذَا الْحَدِيثِ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40]، فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) رواه البخاري (7439) ومسلم (183) واللفظ له.
فهذه الشفاعة تقع من المؤمنين لإخوانهم، ولا يختص بها أهل البيت.
ولا يقول مؤمن: إننا نطلب الشفاعة الآن من أموات المؤمنين ما داموا سيشفعون يوم القيامة، فهذه دعوة للوثنية وتعليق القلوب بغير الله.
بل لا يُدعى إلا الله، ولا يطلب إلا منه وحده.
ثالثا:
لا دليل على أن زينب بنت علي وفاطمة رضي الله عنهما ، التي يقال لها زينب الكبرى : مدفونة في دمشق، ولا مصر .
والأظهر أنها مدفونة في المدينة حيث عاشت وماتت رضي الله عنها وعن أبيها وأمها.
قال الشيخ محمد بخيت المطيعي – مفتي الديار المصرية في عصره – رحمه الله : " جزم كلٌ من ابن الأثير في تاريخه 4/48والطبري 6/264ومابعدها – بأن السيدة زينب بنت علي رضي الله عنه ، وأخت الحسين رضي الله عنه قد عادت مع نساء الحسين أخيها، ومع أخوات الحسين ، بعد مقتله إلى المدينة .. ولا عبرة بمن يشذ عنهما – أي الطبري وابن الأثير - .. وعليه : فلا مدفن لها في مصر ، ولا جامع ، ولا مشهد " انتهى.
وقال الأستاذ فتحي حافظ الحديدي: " آخر ما سجله قدامى المؤرخين عن السيدة زينب بنت السيدة فاطمة الزهراء والإمام علي بن أبي طالب هو ما أورده المؤرخ الحافظ بن عساكر في كتابه الموسوعي: (تاريخ دمشق) بأن الخليفة الأموي يزيد بن معاوية أمر نعمان بن بشر بترحيل السيدة زينب ورفاقها من الشام إلى الحجاز ، ويبعث معهم رجلاً من أهل الشام أميناً صالحاً ، في خيل وأعوان فيسير بهم إلى المدينة المنورة ، وقد دفنت بها ، كما هو ثابت في التاريخ ، وفي الواقع الحالي هناك" انتهى.
وانظر النقلين السابقين، ومزيدا من النقول حول بطلان الادعاء بأن زينب رضي الله عنها دفنت في مصر، تحت هذا الرابط:
http://www.saaid.net/Warathah/Alkharashy/mm/26.htm
ونص ما أورده ابن عساكر رحمه الله: " قال يزيد بن معاوية: يا نعمان بن بشير، جهزْهم بما يُصلحهم ، وابعث معهم رجلا من أهل الشام ، أمينا صالحا ، وابعث معه خيلا وأعوانا ، يسير بهم إلى المدينة ، ثم أمر بالنسوة أن ينزلن في دارٍ على حدة ، معهن أخوهن علي بن الحسين في الدار التي هو فيها .
قال: فخرجن ، حتى دخلن دار زيد ، فلم يبق من آل معاوية امرأة إلا استقبلتهن تبكي وتنوح على الحسين ، فأقاموا عليه المناحة ثلاثا" انتهى من تاريخ دمشق (69/ 177).
وقال ابن الأثير رحمه الله: " ولما أراد أن يسيرهم إلى المدينة ، أمر يزيدُ النعمانَ بن بشير ، أن يجهزهم بما يصلحهم ، ويسير معهم رجلا أمينا من أهل الشام ، ومعه خيل يسير بهم إلى المدينة، ودعا علياً [ابن الحسين] ليودعه ، وقال له: لعن الله ابن مرجانة! [أي عبيد الله بن زياد] أما والله لو أني صاحبه [أي الحسين] ما سألني خصلة أبدا إلا أعطيته إياها ، ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ، ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن قضى الله ما رأيت...
وأوصى بهم هذا الرسول، فخرج بهم ، فكان يسايرهم ليلا ، فيكونون أمامه بحيث لا يفوتون طرفه، فإذا نزلوا تنحى عنهم هو وأصحابه، فكانوا حولهم كهيئة الحرس، وكان يسألهم عن حاجتهم، ويلطف بهم حتى دخلوا المدينة.
فقالت فاطمة بنت علي لأختها زينب: لقد أحسن هذا الرجل إلينا ، فهل لك أن نصله بشيء؟ فقالت: والله ما معنا ما نصله به إلا حُلينا، فأخرجتا سوارين ودملجين لهما ، فبعثتا بها إليه ، واعتذرتا .
فرد الجميع وقال: لو كان الذي صنعت للدنيا ، لكان في هذا ما يرضيني، ولكن والله ما فعلته إلا لله ، ولقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم" انتهى من "الكامل" (3/ 190).
وإذا كانت زينب رضي الله عنها قد سارت إلى المدينة، فما الذي يدعوها للعودة للشام ، وفيها خصمها يزيد؟
يقول المروجون لكونها دفت في دمشق، أن زوجها عبد الله بن جعفر قد سافر إلى الشام ، بسبب مجاعة في المدينة، لمزرعة أو بستان له في الشام، وأنها مرضت وماتت فدفنت هناك.
وهذا كلام لا دليل عليه. وقد أنكره بعض الشيعة أيضا.
قال السيد محسن الأمين العاملي: "يجبُ أن يكون قبرها في المدينة المنوّرة ، فإنّه لم يثبت أنها ـ بعد رجوعها للمدينة ـ خَرجت منها ، وإن كان تاريخ وفاتها ومحل قبرها بالبقيع مجهولاً ، وكم من أهل البيت أمثالها ، من جُهِلَ محلّ قبره ، وتاريخ وفاته ، خصوصاً النساء".
وقال: "لم يَذكر مؤرّخ أنّ عبد الله بن جعفر (زوج زينب) كان له قُرى ومزارع خارج الشام ، حتى يأتي إليها ويقوم بأمرها، وإنّما كان يَفِدُ على معاوية فيُجيزُه، فلا يَطول أمر تلك الجوائز في يده حتّى يُنفِقَها بما عُرِف عنه من الجود المُفرط".
وقال أيضا: "إن كان عبد الله بن جعفر له قرى ومزارع خارج الشام ـ كما صَوّرته المُخيّلة ـ فما الذي يَدعوه للإتيان بزوجته زينب معه؟! وهي التي أُتيَ بها إلى الشام أسيرةً بزيّ السبايا ، وبصورة فظيعة، وأُدخلت على يزيد مع ابن أخيها زين العابدين وباقي أهل بيتها بهيأةٍ مُشجية؟!
فهل من المتصوّر أن تَرغَب في دخول الشام ، ورؤيتها مرّةً ثانية ، وقد جرى عليها بالشام ما جرى؟!
وإن كان الداعي للإتيان بها معه هو المجاعة بالحجاز .. فكان يُمكنه أن يَحمل غلات مَزارعه ـ الموهومة ـ إلى الحجاز ، أو يبيعها بالشام ويأتي بثمنها إلى الحجاز ، ما يُقوّتها به ، فجاء بها إلى الشام لإحراز قوتها ، فهو ممّا لا يقبله عاقل، فابن جعفر لم يكن مُعدِماً إلى هذا الحدّ، مع أنّه يتكلّف من نفقة إحضارها ، وإحضار أهله، أكثر من نفقة قوتها، فما كان ليُحضرها وحدها إلى الشام ، ويترك باقي عياله بالحجاز جياعاً!!" انتهى.
والحاصل: أنه لا يثبت كون زينب بنت علي قد دفنت بالشام، بل الظاهر أنها دفنت بالمدينة حيث عاشت وماتت .
وأما القبر الذي في الشام : فقيل إنه قبر لزينب ؛ إحدى جواري يزيد!!
وأما كون زينب ماتت شهيدة، فلم نقف عليه.
وأما لعن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لمن قتل الحسين أو رضي به، فثابت عنه، لكنه لا يلعن يزيد بعينه ، ولا يرى أنه أمر بقتل الحسين.
قال رحمه الله: " وبذلك أجبت مقدم المغل بولاي؛ لما قدموا دمشق في الفتنة الكبيرة وجرت بيني وبينه وبين غيره مخاطبات؛ فسألني. فيما سألني: ما تقولون في يزيد؟
فقلت: لا نسبه ، ولا نحبه ؛ فإنه لم يكن رجلا صالحا فنحبه ، ونحن لا نسب أحدا من المسلمين بعينه.
فقال: أفلا تلعنونه؟ أما كان ظالما؟ أما قتل الحسين؟
فقلت له: نحن إذا ذُكر الظالمون ، كالحجاج بن يوسف وأمثاله: نقول كما قال الله في القرآن: ألا لعنة الله على الظالمين ، ولا نحب أن نلعن أحدا بعينه؛ وقد لعنه قوم من العلماء؛ وهذا مذهب يسوغ فيه الاجتهاد؛ لكن ذلك القول أحب إلينا وأحسن.
وأما من قتل " الحسين " ، أو أعان على قتله ، أو رضي بذلك : فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؛ لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا" . انتهى من مجموع الفتاوى (4/ 487).
وقال رحمه الله: " وقد سُئل أحمد بن حنبل، عن يزيد: أيُكتب عنه الحديث؟ فقال: لا، ولا كرامة، أليس هو الذي فعل بأهل الحرَّة ما فعل؟
وقال له ابنه: إنَّ قومًا يقولون إنا نحب يزيد. فقال: هل يحبّ يزيد أحد فيه خير؟
فقال له: فلماذا لا تلعنه؟
فقال: ومتى رأيتَ أباكَ يلعنُ أحدًا؟
ومع هذا ؛ فيزيدُ لم يأمر بقتل الحسين، ولا حُمِلَ رأسه إلى بين يديه، ولا نكتَ بالقضيب على ثناياه، بل الذي جرى هذا منه هو عبيدُ الله بن زياد، كما ثبت ذلك في "صحيح البخاري" .
ولا طِيْفَ برأسه في الدنيا، ولا سُبي أحد من أهل الحسين" انتهى من "جامع المسائل" ص149 المجموعة الخامسة.
وقال: " ويزيدُ لم يأمر بقتل الحسين، ولكن أمرَ بدفعِه عن منازعتِه في الملك .
ولكن : لم يَقتُل قَتَلةَ الحسين، ولم يَنتقِم منهم، فهذا مما أُنكِر على يزيد، كما أُنكِر عليه ما فَعَلَ بأهلِ الحرَّةِ لمّا نكَثوا بيعته، فإنه أمرَ بعد القدرة عليهم بإباحةِ المدينةِ ثلاثًا.
ولهذا قيل لأحمد بن حنبل: أيُؤخَذُ الحديثُ عن يزيد؟ فقال: لا، ولا كرامةَ، أوَ ليس هو الذي فعلَ باهل المدينة ما فعل؟ وقيل له: إنّ قومًا يقولون: إنّا نُحِبُّ يزيدَ، فقال: وهل يُحِبُّ يزيدَ مَن يُؤمِنُ بالله واليوم الآخر؟ فقيل له: أوَ لا تلعنُه؟ فقال: متى رأيتَ أباكَ يلعنُ أحدًا؟
ومع هذا فيزيدُ أحد ملوك المسلمين، له حسناتٌ وسيئات، كما لغيره من الملوك، وقد روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (أولُ جيشٍ يَغزو القُسطَنطينية مغفورٌ له ), وأولُ جيشٍ غزاها كان أميرهم يزيد، غزاها في خلافة أبيه معاوية، ومعه أبو أيوب الأنصاري ومات ودُفِن هناك" انتهى من "جامع المسائل" (1/ 261) المجموعة السادسة
والله أعلم.