الحمد لله.
أولا:
إذا كان مباشرتك لما ذكرت من جمع القمامة وغسل الحمامات، لا يؤدي إلى تنجيس ملابسك: فلا حرج عليك في الصلاة بها، ولا يضر كونك تلبسها مدة طويلة كما لا يخفى.
ومثل ذلك : لو تنجس شيء منها ، وأمكنك غسله وتطهيره : فلا حرج عليك في الصلاة بها بعد غسل موضع النجاسة .
واعلم بأن الأصل الطهارة، فلا يحكم بنجاسة شيء إلا بيقين .
وأرضية الحمام طاهرة، باستثناء موضع قضاء الحاجة؛ فلا يحكم بنجاسة هذه الأرض إلا بيقين.
وعليه: فلا يضر سقوط الماء على الأرض، ثم ارتداده على الثوب أو البدن .
ويمكنك التنظيف برفق، فلا يرتد عليك رشاش الماء؛ احتياطا، ومنعا للوسوسة.
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " عن بعض الناس عندما يريدون الوضوء يتوضؤن داخل الحمامات المخصصة لقضاء الحاجة، فيخرجون وقد ابتلت ملابسهم . ولا شك أن الحمامات لا تخلو من النجاسات . فهل تصح الصلاة في ملابسهم تلك ؟ وهل يجوز لهم فعل ذلك ؟
فأجاب : قبل أن أجيب على هذا السؤال أقول : إن هذه الشريعة ولله الحمد كاملة في جميع الوجوه ، وملائمة لفطرة الإنسان التي فطر الله الخلق عليها.
وحيث إنها جاءت باليسر والسهولة ، بل جاءت بإبعاد الإنسان عن المتاهات في الوساوس والتخيلات التي لا أصل لها .
وبناء على هذا: فإن الإنسان بملابسه : الأصل أن يكون طاهراً ما لم يتيقن ورود النجاسة على بدنه أو ثيابه .
وهذا الأصل يشهد له قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حين شكا إليه الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في صلاته يعني الحدث ، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لا ينصرف حتى يسمع صوتاً ، أو يجد ريحاً ) .
فالأصل بقاء ما كان على ما كان ، فثيابهم التي دخلوا بها الحمامات التي يقضون بها الحاجة ، كما ذكر السائل ، إذا تلوثت بماء : فمن الذي يقول إن هذه الرطوبة هي رطوبة النجاسة ، من بول أو غائط أو نحو ذلك ؟
وإذا كنا لا نجزم بهذا الأمر ، فإن الأصل الطهارة .
صحيح إنه قد يغلب على الظن أنها تلوثت بشيء نجس ، ولكنا ما دمنا لم نتيقن ، فإن الأصل بقاء الطهارة ، ولا يجب عليهم غسل ثيابهم ، ولهم أن يصلوا بها ولا حرج " انتهى من "مجموع فتاوى ابن عثيمين" (12/369).
ثانيا:
طهارة الثوب شرط لصحة الصلاة ، مع العلم ، والقدرة.
قال ابن قدامة رحمه الله: " وجملة ذلك، أن الطهارة من النجاسة في بدن المصلي وثوبه : شرط لصحة الصلاة ، في قول أكثر أهل العلم؛ منهم ابن عباس وسعيد بن المسيب وقتادة ومالك والشافعي، وأصحاب الرأي" انتهى من المغني (2/ 48).
وإنما اشترطنا العلم؛ لما روى أبو داود (650) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ ، إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ ، فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْقَوْمُ، أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ، قَالَ: (مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ، قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ جِبْرِيلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا - أَوْ قَالَ: أَذًى).
وكونه صلى الله عليه وسلم لم يعد الصلاة، وبنى على أولها، يدل على أن من لم يعلم بالنجاسة في صلاته، صحت صلاته.
وأما اشتراط القدرة فلقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) التغابن/16. وقال: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) البقرة/286.
وعليه ؛ فإذا تحققت من نجاسة ملابسك ولم يمكنك تطهيرها، ولا نزعها والصلاة بثوب طاهر، فإنك تصلي بها .
وفي وجوب إعادتها خلاف بين الفقهاء .
جاء في الموسوعة الفقهية (27/ 127): " اختلف الفقهاء في صلاة العاجز عن ثوب طاهر :
فذهب الحنفية إلى أنه يتخير بين أن يصلي بالثوب النجس أو عاريا من غير إعادة، والصلاة بالثوب النجس حينئذ أفضل؛ لأن كل واحد منهما مانع من جواز الصلاة حالة الاختيار. فيستويان في حكم الصلاة. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف.
وعند محمد لا تجزئه الصلاة إلا في الثوب النجس؛ لأن الصلاة فيه أقرب إلى الجواز من الصلاة عريانا، فإن القليل من النجاسة لا يمنع الجواز، وكذلك الكثير في قول بعض العلماء...
وذهب المالكية والحنابلة إلى أن العاجز عن ثوب طاهر يصلي في ثوبه النجس، وعند الحنابلة يعيد الصلاة إذا وجد غيره أو ما يطهر به أبدا. وعند المالكية يعيد في الوقت فقط. وذهب الشافعية إلى أنه يجب عليه أن يصلي عريانا ولا إعادة عليه" انتهى.
والقول الراجح في هذا أنه يصلي ، بحسب قدرته ، وحاله ، ولا إعادة عليه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" فلو صلى ، وببدنه أو ثيابه نجاسة ، ولم يعلم بها إلا بعد الصلاة : لم تجب عليه الإعادة في أصح قولي العلماء، وهو مذهب مالك وغيره وأحمد في أقوى الروايتين .
وسواء كان عَلِمها ثم نسيها ، أو جهلها ابتداء ؛ لما تقدم من أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في نعليه ثم خلعهما في أثناء الصلاة ، لما أخبره جبريل أن بهما أذى، ومضى في صلاته، ولم يستأنفها مع كون ذلك موجودا في أول الصلاة، لكن لم يعلم به، فتكلفه للخلع في أثنائها - مع أنه لولا الحاجة لكان عبثا أو مكروها - .. يدل على أنه مأمور به من اجتناب النجاسة مع العلم .
ومظنة تدل على العفو عنها في حال عدم العلم بها." انتهى من مجموع الفتاوى (22/ 184).
وقال الشيخ ابن عثيمين في الشرح الممتع (2/180- 182) :
"وأما العدم بمعنى أن لا يكون عنده ثوب طاهر، ولا يتمكَّن من تطهير ثوبه : فقد ذكرنا أنَّ المذهب أنه يصلِّي به ويُعيد .
وهذه المسألة فيها أقوال أشهرها ثلاثة:
القول الأول: وجوب الصَّلاة مع الإعادة، وهو المذهب .
والقول الثاني: أنه يُصلِّي عُرياناً ولا يعيد، وهو قول الشَّافعي ورواية عن أحمد .
والقول الثالث: أنه يُصلِّي به، ولا إعادة، اختاره الشَّيخان: الموفَّق والمجد ، وهو مذهب مالك .
أما الذين قالوا يُصلِّي ويعيد، فعلَّلوا قولهم: بأنَّ سَتْرَ العورة واجب، فيجب أن يصلِّي ويجب أن يُعيد؛ لأنه حامل للنَّجاسة الواقعة بهذا الثَّوب.
وأما الذين قالوا: يُصلِّي عُرياناً ولا يُعيد؛ فعلَّلوا ذلك بأن هذا الثَّوب لا يجوز لُبْسُه في الصَّلاة، وكونه مضطراً لِسَتْرِ عورته لا يُبرِّر له أن يلبسه في الصَّلاة وهو نجس، فيجب عليه أن يخلعه ويُصلِّي عُرياناً.
وأما الذين قالوا: يُصلِّي به بلا إعادة فقالوا: إن السَّتر واجب، وإنَّ حَمْله للنَّجسِ حينئذ للضَّرورة؛ لأنه ليس عنده ما يُزيلُ به هذه النَّجاسة، وليس عنده ما يكون بدلاً عن هذا الثَّوب، فيكون مضطراً إلى لُبْسِهِ، وقد قال الله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] .
وهذا هو القول الرَّاجح.
ويلزم على القول الأول: أنه يُصلِّي في ثوب نجسٍ، ويتقرَّب إلى الله وثوبُه ملطَّخ بالنَّجاسة، ثم يُقال: هذه الصَّلاة غير مقبولة، فيجب أن تُعيدها، فأوجبنا عليه صلاتين، صلاةً مردُودة وصلاةً مقبولة، وهذا قول إذا تصوَّره الإنسانُ عرف أنَّه بعيد.
ويلزم على القول الثَّاني؛ وهو أن يُصلِّي عُرياناً: ما هو أقبح، فإن صورة الرَّجل العُريان بين يدي الله عزّ وجل، أقبحُ من أن يكون حاملاً لثوب نجس للضَّرورة، والله تعالى أحقُّ أن يُستحى منه." انتهى .
وينبغي ، مع ذلك ، أن تحتاط لملابسك حتى لا تتنجس ، قدر طاقتك .
فإن حصل وتنجست ، فينبغي أن تحاول إقناع المسئول بالتجاوز عن دقائق من الوقت ، تنزع فيها ملابسك وتصلي فيما تحتها ، أو في ثياب أخرى طاهرة.
فإن عجزت ، فصل بحسب حالك ، وقدرتك ، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ؛ ونسأل الله أن يجعل لك فرجا ومخرجا.
والله أعلم.