الحمد لله.
فما ذكره السائل الكريم ليس من الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه و سلم ، وإنما من الآثار الموقوفة على بعض الصحابة والتابعين ، وعلى كلٍ فهذا بيان درجة أسانيدها ، من حيث الصحة والضعف :
الأثر الأول :
عن أَبِي مِجْلَز ، بكسر الميم وفتح اللام ، هو لاحق بن حميد بن سعيد بن خالد ، من ثقات التابعين ، سمع من بعض الصحابة كابن عمر ، وابن عباس ، وأسامة بن زيد ، وأنس بن مالك، وغيرهم
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (29181) من طريق يزيد بن هاون ، عن عمران بن حدير ، عن أبي مجلز قال :" مَنْ خَافَ مِنْ أَمِيرٍ ظُلْمًا ، فَقَالَ:" رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا ، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا ، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا ، وَبِالْقُرْآنِ حَكَمًا وَإِمَامًا ، أَنْجَاهُ اللَّهُ مِنْهُ ".
وإسناده صحيح عن أبي مجلز ، رجاله ثقات ، وقد صححه الشيخ الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (2239) .
الأثر الثاني :
عن الشعبي ، وهو عامر بن شراحيل ، الإمام الفقيه ، من أكابر التابعين ، روى عن بعض الصحابة ، وكان من أوعية العلم وسادة الفقهاء في زمانه .
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (29180) من طريق أبي أسامة عَنْ مِسْعَرٍ ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ ، قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ مِنْ خَاصَّةِ الشَّعْبِيِّ أَخْبَرَهُ بِهَذَا الدُّعَاءِ:" اللَّهُمَّ إِلَهَ جِبْرِيلَ ، وَمِيكَائِيلَ ، وَإِسْرَافِيلَ ، وَإِلَهَ إِبْرَاهِيمَ ، وَإِسْمَاعِيلَ ، وَإِسْحَاقَ ، عَافِنِي وَلَا تُسَلِّطَنَّ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ عَلَيَّ بِشَيْءٍ لَا طَاقَةَ لِي بِهِ ". وَذُكِرَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى أَمِيرًا ، فَقَالَهَا فَأَرْسَلَهُ ".
وإسناده صحيح ، رجاله ثقات أئمة .
الأثر الثالث :
عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه .
هذا الأثر روي مرفوعا وموقوفا ، والصحيح أنه موقوف .
والخلاف فيه على أحد رواته ، وهو مسعر بن كدام
حيث رواه وكيع كما في "المصنف" لابن أبي شيبة (29179) ، ويحيى بن سعيد وسفيان كما في "عمل اليوم والليلة" للنسائي (642) (644) ، وابن فضيل كما في "الدعاء" للضبي (86) ، جميعا عن مسعر عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ ، زَوَّجَ ابْنَتَهُ فَخَلَا بِهَا ، فَقَالَ: إِذَا نَزَلَ بِكِ الْمَوْتُ ، أَوْ أَمْرٌ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا فَظِيعٌ ، فَاسْتَقْبِلِيهِ بِأَنْ تَقُولِي:" لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ ، سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ "، قَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ: " فَبَعَثَ إِلَيَّ الْحَجَّاجُ ، فَقُلْتُهُنَّ فَمَا قُمْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَكَ ، وَلَقَدْ صِرْتُ وَمَا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَيَّ مِنْكَ ، سَلْنِي حَاجَتَكَ " .
وخالفهم : سليمان التيمي ، ومحمد بن بشر كما في "عمل اليوم والليلة" للنسائي (641) و (645) ، فروياه عن مسعر عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ ... به ، إلا أنه قال في آخره : قَالَ عبد الله بن جَعْفَر أَخْبرنِي عمي أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علمه هَؤُلَاءِ الْكَلِمَات .
والراجح من ذلك قول الجماعة ؛ أنه موقوف .
وقد سُئل أبو حاتم عن الطريق المرفوع - كما في العلل ، لابنه (1997) - فقال :" هَذَا خطأٌ ؛ روى غيرُ واحدٍ عَنْ مِسْعَرٍ لا يُوَصِّلُونَهُ ". اهـ
ويروى الأثر من وجه آخر عن عبد الله بن جعفر ، وهو ما أخرجه أحمد في "مسنده" (1762) ، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (646) ، من طريق حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنِ عبد الرحمن بْنِ أَبِي رَافِعٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ ، أَنَّهُ زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنَ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، فَقَالَ لَهَا: إِذَا دَخَلَ بِكِ فَقُولِي:" لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ ، سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " ، وَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ قَالَ هَذَا .
قَالَ حَمَّادٌ: فَظَنَنْتُ أَنَّهُ قَالَ:" فَلَمْ يَصِلِ الَيْهَا " .
وهذا الوجه ضعيف ، ضعفه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (5/74) لأجل جهالة عبد الرحمن بن أبي رافع .
الأثر الرابع :
عن الشعبي
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (29178) ، والطبراني في "الدعاء" (1065) ، والضبي في "الدعاء" (64) ، وابن أبي الدنيا في "الفرج بعد الشدة" (68) ، جميعا من طريق حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، قَالَ كُنْتُ جَالِسًا مَعَ زِيَادِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَأُتِيَ بِرَجُلٍ يُحْمَلُ ، مَا نَشُكُّ فِي قَتْلِهِ ، قَالَ: فَرَأَيْتُهُ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِشَيْءٍ مَا نَدْرِي مَا هُوَ ، فَخَلَّى سَبِيلَهُ ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْقَوْمِ ، فَقَالَ: لَقَدْ جِيءَ بِكَ وَمَا نَشُكُّ فِي قَتْلِكَ ، فَرَأَيْتُكَ حَرَّكْتَ شَفَتَيْكَ بِشَيْءٍ مَا نَدْرِي مَا هُوَ ، فَخَلَّى سَبِيلَكَ ، قَالَ: قُلْتُ:" اللَّهُمَّ رَبَّ إِبْرَاهِيمَ وَرَبَّ إِسْحَاقَ، وَرَبَّ يَعْقُوبَ، وَرَبَّ جِبْرِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، وَمُنَزِّلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، ادْرَأْ عَنِّي شَرَّ زِيَادٍ ، فَدَرَأَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَرَّهُ » .
وإسناده صحيح ، رجاله أئمة ثقات .
هذا وقد ذكر الإمام الشوكاني أثر الشعبي وأبي مجلز في "تحفة الذاكرين" (ص299) ثم قال :" وهذا الأثر والذي قبله يمكن أن يكونا مرويين عن الصحابة رضي الله عنهم ، ويمكن أن يكون مستند هذين الإمامين الكبيرين التجريب ؛ فإنهما قد جرباه فوجداه صحيحا ". اهـ
ومثل هذه الأمور التجريبية : إذا قيلت على وجه التداوي في محله ، أو الرقى ، أو التعوذات من الأمور المرهوبة ، ونحو ذلك : فلا يظهر بها بأس إن شاء الله ، وقد مر حال من عمل من السلف بها ؛ وإنما الممنوع ، الذي يحتاج إلى توقيف : هو باب التعبد المحض لله .
والله أعلم .