الحمد لله.
أولا:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " مَا عَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا قَطُّ، إِنِ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ " رواه البخاري (3563) ، ومسلم (2064).
وهذا الحديث يدل على كراهة أن يعيب الشخص الطعام المقدم له ؛ وعموم الحديث يدل على كراهة أن يعيب صنعة صانعه أيضًا .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" قوله ( ما عاب النبي صلى الله عليه وسلم طعاما ) أي مباحا، أما الحرام فكان يعيبه ويذمه وينهى عنه .
وذهب بعضهم إلى أن العيب إن كان من جهة الخلقة كره وإن كان من جهة الصنعة لم يكره، قال: لأن صنعة الله لا تعاب وصنعة الآدميين تعاب.
قلت: والذي يظهر التعميم، فإن فيه كسر قلب الصانع.
قال النووي: من آداب الطعام المتأكدة أن لا يعاب، كقوله : مالح حامض ، قليل الملح ، غليظ ، رقيق ، غير ناضج ، ونحو ذلك " انتهى من"فتح الباري" (9 / 547 - 548).
وهذا ظاهر فيما إذا كان الطعام المقدم مجانًا .
كالطعام الذي يقدمه صاحب البيت لضيوفه ، أو للمساكين ، أو هديةً لجيرانه ، أو ما تصنعه المرأة لأهل بيتها ونحو ذلك ..
فعيب هذا الطعام من سوء الخلق ، ومن مقابلة الإحسان بالإساءة ، وفيه كسر لقلب صاحب الطعام وأذية له .
فالحديث السابق ظاهر في مثل هذا النوع من الطعام .
أما إذا كان الطعام سلعة تباع ، أو استأجر صاحب البيت طباخا ليصنع له طعاما ، فهذا من عقود المعاوضة ، وليس من عقود التبرع والإحسان ، فلكل واحد من الطرفين أن يطالب بحقه كاملا ، وللمشتري أن يشترط في الطعام ما يشاء من الشروط ، فإن وافق عليها البائع وجب عليه الوفاء بها .
لأن المشتري إنما رضي ببذل ماله (الثمن) ، مقابل طعام له أوصاف محددة .
قال الله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ النساء/29.
وقال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ المائدة /1.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ رواه أبو داود (3594) ، ورواه الترمذي (1352) من حديث عمرو بن عوف.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
" وهاهنا قضيتان كليتان من قضايا الشرع الذي بعث الله سبحانه به رسوله :
إحداهما: أن كل شرط خالف حكم الله وناقض كتابه فهو باطل كائنا ما كان.
والثانية: أن كل شرط لا يخالف حكمه ولا يناقض كتابه ، وهو ما يجوز تركه وفعله بدون الشرط - فهو لازم بالشرط ، ولا يستثنى من هاتين القضيتين شيء، وقد دل عليهما كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتفاق الصحابة رضي الله عنهم " .
انتهى من"إعلام الموقعين" (5 / 379).
وصفات المبيع كما يثبت اشتراطها بالتنصيص عليها أثناء العقد، كذلك تثبت بالعرف؛ والقاعدة عند أهل العلم "أن المعروف عرفا كالمشروط شرطا".
وبناء على هذا؛ فإن كان هذا الطعام يخالف الشروط المتفق عليها ، أو المتعارف عليها ، كما يفهم من السؤال؛ فإنه يحق للمشتري أن يشتكي ، وأن يطالب بحقه ، كما ينبغي نصح الصانع بأن يلتزم بصفات العقد حتى لا يأكل أموال الناس بالباطل.
فشكوى المشتري في هذه الحال ليست من باب عدم شكر النعمة ؛ وإنما من باب المطالبة بالحقوق التي أقرّها الشرع ، أو هي في أقل الأحوال : دعوة للصانع أن يحسن صنعته ، وأن يحافظ على زبائنه ، والمتعاملين معه ؛ وهذا جائز لا حرج فيه .
لكن مع ذلك ، ينبغي مراعاة الرفق بالصانع ، وعدم التعنت معه ، وملاينته في القول والدعوة إلى إصلاح صنعته .
والله أعلم.