الحمد لله.
لم يأت نص من الوحي يبين زمن بختنصر هذا، وإنّما تطرّق أهل العلم إلى خبره في عدد من المناسبات، أشهرها في مناسبة تفسيرهم لقوله تعالى:
( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ، فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا ، ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ، إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ) الإسراء (4 – 7).
حيث ذكروا أن المرة الثانية كانت بعد موت يحيى ورفع عيسى عليهما السلام، وذكر بعض المفسرين؛ أن المَلِك الذي هاجم بني إسرائيل فدمر بيت المقدس في هذه المرة، هو "بختنصر"، وقيل غيره.
قال ابن أبي زمنين رحمه الله تعالى:
" ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ ) يعني: آخر العقوبتين ( لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ ) وهي تقرأ (ليَسُوءَ) أي: ليسوء الله وجوهكم ( وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ ) يعني: بيت المقدس ( كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ) أي: وليفسدوا ما غلبوا عليه إفسادا؛ يقال: إن إفسادهم الثاني: قتل يحيى بن زكريا، فبعث الله عليهم بختنصر، عدا به عليهم؛ فخرب بيت المقدس، وسبى وقتل منهم سبعين ألفا " انتهى، من "تفسير ابن أبي زمنين" (3 / 13).
ومن الروايات الواردة في هذا ما رواه الطبري في "تفسيره" (14 / 503)؛ حيث قال: حَدَّثَنَا أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ( بَعَثَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، فِي اثْنَيْ عَشَرَ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ. قَالَ: فَكَانَ فِيمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ، نِكَاحُ ابْنَةِ الْأَخِ. قَالَ: وَكَانَتْ لِمَلِكِهِمُ ابْنَةُ أَخٍ تُعْجِبُهُ يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجُهَا، وَكَانَتْ لَهَا كُلُّ يَوْمٍ حَاجَةً يَقْضِيهَا، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أُمَّهَا، قَالَتْ لَهَا: إِذَا دَخَلْتِ عَلَى الْمَلِكِ فَسَأَلَكِ حَاجَتَكِ، فَقُولِي: حَاجَتِي أَنْ تَذْبَحَ لِي يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ سَأَلَهَا حَاجَتَهَا، فَقَالَتْ: حَاجَتِي أَنْ تَذْبَحَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، فَقَالَ: سَلِي غَيْرَ هَذَا، فَقَالَتْ: مَا أَسْأَلُكَ إِلَّا هَذَا، قَالَ: فَلَمَّا أَبَتْ عَلَيْهِ دَعَا يَحْيَى وَدَعَا بِطَسْتٍ فَذَبَحَهُ، فَبَدَرَتْ قَطْرَةٌ مِنْ دَمِهِ عَلَى الْأَرْضِ، فَلَمْ تَزَلْ تَغْلِي حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ بُخْتَنَصَّرَ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَتْهُ عَجُوزٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَدَلَّتْهُ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ. قَالَ: فَأَلْقَى اللَّهُ فِي نَفْسِهِ أَنْ يَقْتُلَ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ مِنْهُمْ حَتَّى يَسْكُنَ، فَقَتَلَ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنْهُمْ مِنْ سِنٍّ وَاحِدٍ، فَسَكَنَ ) وهذا الأثر إسناده ظاهره الحسن، وقد صححه الحاكم في "المستدرك" (2 / 290) فقال: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ"، ووافقه الذهبي.
وهذا الخبر غالب الظن أنه مما نقله ابن عباس رضي الله عنه عمن أسلم من أهل الكتاب، فهو رضي الله عنه ينقل أحيانا من أخبارهم و قصصهم؛ خاصة ما ورد عنه من طريق سعيد بن جبير.
وقال صاحب كتاب "التقرير في أسانيد التفسير" (ص 51):
" من أصح الروايات عن عبد الله بن عباس: رواية سعيد بن جبير وكان مكيّا مقدما، فهذا علي بن المديني يقدمه على سائر أصحاب عبد الله بن عباس، وهو أكثر الرواة عنه رواية، وأكثر التابعين من المكيين عناية بالإسرائيليات، وما يروى عن ابن عباس من هذا النوع ، فأكثره من طريقه .
ويروي عن ابن عباس في أمور الغيبيات من أخبار السابقين وأحوال القيامة مما يحتمل أخذه من بني إسرائيل" انتهى.
وروى الطبري في تاريخه (1 / 586 – 587) من طريق السدي، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود- وعن ناس من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قصة طويلة عن بختنصر توافق خبر ابن عباس السابق.
لكن يغلب الظن أنهم أخذوها عمن أسلم من أهل الكتاب.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في تفسيره، عن هذين الرجلين: عبد الله بن مسعود وابن عباس، ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب، التي أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ( بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ) رواه البخاري عن عبد الله " انتهى، من "تفسير ابن كثير" (1 / 8).
ثانيا:
المحققون من أهل العلم غلّطوا من ذكر أن بختنصر هو الذي نكّل ببني إسرائيل في المرة الثانية بعد زمن عيسى عليه السلام؛ لأنه قول مخالف للمعتمد في التاريخ أن بختنصر كان قبل عيسى عليه السلام بزمن طويل جدا .
وممن نصّ على ذلك الطبري رحمه الله تعالى في "تاريخه" (1 / 589)؛ حيث قال:
" وهذا القول- الذي روي عمن ذكرت في هذه الأخبار التي رويت ، وعمن لم يذكر في هذا الكتاب، من أن بختنصر، هو الذي غزا بني إسرائيل عند قتلهم يحيى بن زكرياء- عند أهل السير والأخبار والعلم بأمور الماضين في الجاهلية، وعند غيرهم من أهل الملل = غلط، وذلك أنهم بأجمعهم مجمعون على أن بختنصر إنما غزا بني إسرائيل عند قتلهم نبيهم شعيا ، في عهد إرميا بن حلقيا، وبين عهد إرميا وتخريب بختنصر بيت المقدس إلى مولد يحيى بن زكرياء أربعمائة سنة ، وإحدى وستون سنة في قول اليهود والنصارى، ويذكرون أن ذلك عندهم في كتبهم وأسفارهم مُبَيَّن ... " انتهى.
وقال ابن الأثير رحمه الله تعالى:
" قد اختلف العلماء في الوقت الذي أرسل فيه بختنصر على بني إسرائيل، فقيل: كان في عهد إرميا النبي، ودانيال، وحنانيا، وعزاريا، وميشائيل. وقيل: إنما أرسله الله على بني إسرائيل لما قتلوا يحيى بن زكريا. والأول أكثر " انتهى. "الكامل" (1 / 228).
ويحتمل جدا؛ أن يكون هناك تشابه في الألقاب، فيحتمل أن الملك الذي دمر بيت المقدس بعد زمن يحيى عليه السلام كان يلقب بـ "بختنصر" ، لمشابهته لبختنصر الأول في القسوة والشدة والتخريب.
قال محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى:
" ومن الغريب: أن ابن جرير الطبري قال في تفسيره: إن الآية – قوله تعالى: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ) - في اتحاد المسيحيين مع "بختنصر البابلي" على تخريب بيت المقدس ، مع أن حادثة بختنصر كانت قبل وجود المسيح والمسيحية بستمائة وثلاث وثلاثين سنة.
ولو لم يكن مؤرخا من أكبر المؤرخين لالتمس له العذر بحمل قوله على حادثة "أدرينال الروماني" الذي جاء بعد المسيح بمائة وثلاثين سنة، وبنى مدينة على أطلال أورشليم وزينها وجعل فيها الحمامات، وبنى هيكلا للمشترى على أطلال هيكل سليمان، وحرم على اليهود دخول هذه المدينة، وجعل جزاء من يدخلها القتل؛ فلذلك كان اليهود يسمونه "بختنصر الثاني" لشدة ما قاسوا من ظلمه واضطهاده " انتهى، من "تفسير المنار" (1 / 431).
والخلاصة؛ أنه لا يعرف في نصوص الوحي الثابتة ما ينص على زمن بختنصر؛ وما ورد عن السلف في كونه بعد عيسى عليه السلام، فغالب الظن أنها أخبار مأخوذة عن أهل الكتاب، فيرجع الخلاف إلى روايات أهل الكتاب، وأهل التاريخ يرجحون الروايات القائلة بأنه كان قبل زمن عيسى عليه السلام.
والله أعلم.