الذي تعلم علما سواء الديني أو الدنيوي هل يجب عليه تعليمه ؟
الحمد لله.
تعليم العلم يدخل في فروض الكفايات؛ إذْ لابد من وجود من يعلم المسلمين أمور دينهم، ومن يعلمهم الصناعات والطب ونحوه.
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله :
"بيان العلم الذي هو فرض كفاية : اعلم أن الفرض لا يتميز عن غيره إلا بذكر أقسام العلوم ، والعلوم بالإضافة إلى الغرض الذي نحن بصدده تنقسم إلى شرعية وغير شرعية ، وأعني بالشرعية ما استفيد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ، ولا يرشد العقل إليه مثل الحساب ، ولا التجربة مثل الطب ، ولا السماع مثل اللغة .
فالعلوم التي ليست بشرعية : تنقسم إلى ما هو محمود ، وإلى ما هو مذموم ، وإلى ما هو مباح ؛ فالمحمود ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب . وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية ، وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة ؛ أما فرض الكفاية فهو علمٌ لا يُستغنى عنه في قوام أمور الدنيا ، كالطب ؛ إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان . وكالحساب ؛ فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرهما . وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها حرج أهل البلد وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين .
فلا يُتعجب من قولنا : إن الطب والحساب من فروض الكفايات ؛ فإن أصول الصناعات أيضا من فروض الكفايات ، كالفلاحة والحياكة والسياسة ، بل الحجامة والخياطة ؛ فإنه لو خلا البلد من الحجام تسارع الهلاك إليهم ، وحَرِجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك " انتهى من "إحياء علوم الدين" (1/16) .
وقال النووي رحمه الله: " اعلم أن التعليم هو الأصل الذي به قوام الدين، وبه يُؤمن إمحاق العلم، فهو من أهم أمور الدين وأعظم العبادات وآكد فروض الكفايات.
قال الله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) وقال تعالى (إن الذين يكتمون ما أنزلنا) الآية .
وفي الصحيح من طرق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليبلغ الشاهد منكم الغائب) والأحاديث بمعناه كثيرة، والإجماع منعقد عليه" انتهى من "المجموع" (1/ 30).
وقد يجب التعليم وجوبا عينيًا في بعض الحالات، كمن كان عنده علم بمسألة ليست عند غيره، أو من رأى كافرًا يريد الإسلام، يقول علموني الإسلام، وما الدين؟ وكيف أصلي؟ وكمن جاءه مستفتٍ يسأله عن الحلال، أو الحرام، فإنه يلزمه حينئذ البيان، ويحرم الكتمان.
قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ البقرة/159
قال القرطبي رحمه الله: "قيل: المراد كل من كتم الحق، فهي عامة في كل من كتم علما من دين الله ، يُحتاج إلى بثه، وذلك مفسر في قوله صلى الله عليه وسلم: (من سئل عن علم [يعلمه] فكتمه ، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار). رواه أبو هريرة وعمرو بن العاص، أخرجه ابن ماجه.
ويعارضه قول عبد الله بن مسعود: ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة. وقال عليه السلام: (حدث الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله).
وهذا محمول على بعض العلوم، كعلم الكلام، أو ما لا يستوي في فهمه جميع العوام، فحكم العالم أن يحدث بما يُفهم عنه، وينزل كل إنسان منزلته، والله تعالى أعلم...
وبها [ أي بالآية السابقة ] : استدل العلماء على وجوب تبليغ العلم الحق، وتبيان العلم على الجملة، دون أخذ الأجرة عليه؛ إذ لا يستحق الأجرة على ما عليه فعله، كما لا يستحق الأجرة على الإسلام. وقد مضى القول في هذا.
وتحقيق الآية هو: أن العالم إذا قصد كتمان العلم عصى، وإذا لم يقصده ، لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه مع غيره. وأما من سئل فقد وجب عليه التبليغ لهذه الآية وللحديث.
أمَا إنه لا يجوز تعليم الكافر القرآن والعلم حتى يسلم، وكذلك لا يجوز تعليم المبتدع الجدال والحجاج ليجادل به أهل الحق، ولا يُعلم الخصم على خصمه حجة يقطع بها ماله، ولا السلطان تأويلا يتطرق به إلى مكاره الرعية، ولا ينشر الرخص في السفهاء فيجعلوا ذلك طريقا إلى ارتكاب المحظورات، وترك الواجبات ونحو ذلك" انتهى من "تفسير القرطبي" (2/ 184).
وقد روى أبو داود (3658) ، والترمذي (2649) ، وابن ماجه (264) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
قال الخطابي رحمه الله: "وهذا في العلم الذي يلزمه تعليمه إياه ، ويتعين عليه فرضه، كمن رأى كافراً يريد الإسلام يقول علموني: ما الإسلام وما الدين؟، وكمن يرى رجلاً حديث العهد بالإسلام لا يحسن الصلاة وقد حضر وقتها يقول: علموني كيف أصلي؟، وكمن جاء مستفتياً في حلال أو حرام ، يقول : أفتوني وأرشدوني ، فإنه يلزم في مثل هذه الأمور أن لا يمنعوا الجواب عما سألوا عنه من العلم، فمن فعل ذلك كان آثماً مستحقاً للوعيد والعقوبة.
وليس كذلك الأمر في نوافل العلم التي لا ضرورة بالناس إلى معرفتها.
وسئل الفضيل بن عياض عن قوله صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)، فقال: كل عمل كان عليك فرضاً، فطلب علمه عليك فرض، وما لم يكن العمل به عليك فرضاً ، فليس طلب علمه عليك بواجب" انتهى من "معالم السنن" (4/ 85).
وقال في (1/ 294): "وإنما يأثم بكتمان العلم الذي يُسأل عنه .
فأما أن يأثم في منعه كتابا عنده ، وحبسه عن غيره : فلا وجه له . والله أعلم" انتهى.
وقال الشيخ أبو الحسن المباركفوري ، رحمه الله :
" قوله: (من سئل عن علم) : نافع ، يحتاج إليه السائل ، في أمر دينه ، وكان السائل أهلاً لذلك العلم.
(ثم كتمه) : "ثم" فيه : استبعادية؛ لأن تعلم العلم ، إنما كان لنشر العلم ونفعه الناس، وبكتمه يزول ذلك الغرض، فكان بعيداً ممن هو في صورة العلماء والحكماء.
(ألجم يوم القيامة بلجام من نار) أي : أدخل في فمه لجام من نار ؛ شَبه ما يوضع في فمه من النار ، بلجام في فم الدابة، وهو إنما كان جزاء إمساكه عن قول الحق. وخُص اللجام بالذكر ، تشبيهاً للكاتم بالحيوان الذي سُخر ومُنع مِن قصدِه ما يريد.
وفي رواية لابن ماجه: (ما من رجل يحفظ علماً فيكتمه إلا أتى يوم القيامة ملجوماً بلجام من نار) .
وظاهره : أن المراد : حضر في المحشر كذلك، ثم أمره إلى الله بعد ذلك؛ لأنه أمسك فمه عن كلمة الحق وقت الحاجة والسؤال، فجوزي بمثله، حيث أمسك الله فمه ، في وقت اشتداد الحاجة ، للكلام والجواب عند السؤال عن الأعمال .
وهذا في العلم الضروري الذي يلزم تعليمه ، ويتعين عليه، كمن يريد الإسلام ، أو تعليم الصلاة وقد حضر وقتها، أو فتوى في الحل والحرمة. وأما نوافل العلم فهو مخير في تعليمها." انتهى، من "مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (1/325) .
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "ما صحة حديث (من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار) نرجو التفصيل وكيف يكون الكتمان؟
فأجاب رحمه الله تعالى: كتمان العلم يكون بإخفائه حين تدعو الحاجة إلى بيانه ، والحاجة التي تدعو إلى بيان العلم بالسؤال ، إما بلسان الحال ، وإما بلسان المقال .
فالسؤال بلسان الحال : أن يكون الناس على جهل في دين الله ، بما يلزمهم في الطهارة في الصلاة ، في الزكاة ، في الصيام، في الحج ، في بر الوالدين ، في صلة الأرحام ، فيجب حينئذٍ بيان العلم .
أو بلسان المقال : بأن يسألك إنسان عن مسألة من مسائل الدين ، وأنت تعرف حكمها ، فالواجب عليك أن تبينها ، ومن كتم علماً مما علمه الله ، فهو على خطر عظيم قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) وقال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) .
وليعلم طالب العلم أنه كلما بيَّن العلم ، ازداد هذا العلم ؛ فإن العلم يزيد بزيادة نفسه ، قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ) " انتهى من "فتاوى نور على الدرب" (6/ 2) ترقيم الشاملة.
والحاصل :
أن التعليم والبيان الشرعي : يجب على الإنسان وجوبا عينيا ، إذا لم يكن يعلم بالمسألة غيره، أو سئل عنها، فيجب البيان ، ويحرم الكتمان إلا لعذر كخوف من ظالم، أو خوف فتنة على السامع ونحو ذلك.
وأما العلم الدنيوي : فتقدم أنه من فروض الكفايات، ولم نقف على من أوجب تعليمه للغير ، وجوبا عينيا.
والله أعلم.