الحمد لله.
أولا:
يجب إنقاذ المعصوم من الهلكة لمن قدر على ذلك، ويأثم بتركه.
والمعصوم: هو المسلم والكافر الذمي والمعاهد والمستأمن. فخرج بذلك الكافر المحارب، والمرتد، والزاني المحصن، ونحوهم ، فهؤلاء غير معصومين.
قال في "كشاف القناع" (1/ 380):
"(ويجب رد كافر معصوم) بذمة أو هدنة أو أمان (عن بئر ونحوه) كحية تقصده (ك) رد (مسلم) عن ذلك ، بجامع العصمة .
(و) يجب (إنقاذ غريق ونحوه) كحريق (فيقطع الصلاة لذلك) ، فرضا كانت أو نفلا .
وظاهره: ولو ضاق وقتها، لأنه يمكن تداركها بالقضاء، بخلاف الغريق ونحوه ؛ (فإن أبى قطعها) ، أي الصلاة لإنقاذ الغريق ونحوه : أثم" انتهى.
وفي "الموسوعة الفقهية" (31/ 183):
" إغاثة الغريق والعمل على إنجائه من الغرق : واجب على كل مسلم ، متى استطاع ذلك .
يقول الفقهاء : يجب قطع الصلاة لإغاثة غريق إذا قدر على ذلك، سواء أكانت الصلاة فرضا أم نفلا ، وسواء استغاث الغريق بالمصلي ، أو لم يعيّن أحدا في استغاثته ، حتى ولو ضاق وقت الصلاة ؛ لأن الصلاة يمكن تداركها بالقضاء ، بخلاف الغريق" انتهى.
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم : (255361) .
ثانيا:
هذا الإنقاذ مقيد بالقدرة والتمكن ، كغيره من الواجبات الشرعية ؛ فإذا كان الإنسان عاجزا عن إنقاذ غيره لم يلزمه ذلك .
قال في "كشاف القناع" (2/ 314): "(ولو وجد آدميا معصوما في هلكة ، كغريق : لزمه - مع القدرة - إنقاذه) من الهلكة" انتهى.
وإذا غلب على الظن أنه يهلك إذا حاول إنقاذ غيره : حرم عليه ذلك؛ لما فيه من إلقاء النفس إلى التهلكة، كأن يكون الإنسان لا يحسن السباحة، فيحاول إنقاذ غريق.
ومن كان يحسن السباحة وأراد إنقاذ الغريق فتشبث به، وخشي على نفسه الهلاك، فإن له أن يدفعه عن نفسه، وأن يتركه، ولو أدى ذلك لهلاكه، حفاظا على نفسه، سواء كان الغريق مسلما أو كافرا، بل الظاهر أنه يجب أن ينقذ نفسه؛ لقوله تعالى: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ البقرة/ 195 .
قال الشوكاني رحمه الله: " لا شك أن إنقاذ الغريق من أهم الواجبات على كل قادر على إنقاذه ، فإذا أخذ في إنقاذه ، فتعلق به حتى خشي على نفسه أن يغرق مثله : فليس عليه في هذه الحالة وجوب ، لا شرعا ، ولا عقلا، فيخلص نفسه منه ، ويدعه، سواء كان قد أشرف على النجاة أم لا، بل ظاهر قوله تعالى: ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) [البقرة: 195]، أنه يجب عليه تخليص نفسه.
والآية هذه ، وإن كانت واردة على سبب خاص ، كما في سنن أبي داود وغيرهما ؛ فالاعتبار بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب ، كما تقرر في الأصول ، وهو الحق" انتهى من "السيل الجرار"، ص892 .
ثالثا:
ليس للإنسان أن يؤثر غيره بما يؤدي إلى هلاك نفسه، كأن يغرق لإنقاذ غريق، أو يعطي طعامه لمضطر وهو مضطر؛ لأن الإنسان مأمور بحفظ نفسه أولا، ولأنه منهي عن إلقاء نفسه إلى التهلكة.
قال ابن قدامة في "المغني" (9/ 421) : " وإذا اشتدت المخمصة في سنة المجاعة ، وأصابت الضرورة خلقا كثيرا ، أو كان عند بعض الناس قدر كفايته وكفاية عياله ، لم يلزمه بذله للمضطرين ، وليس لهم أخذه منه ; لأن ذلك يفضي إلى وقوع الضرورة به ، ولا يدفعها عنهم . وكذلك إن كانوا في سفر ومعه قدر كفايته من غير فضلة ، لم يلزمه بذل ما معه للمضطرين ... لأن هذا مفض به إلى هلاك نفسه ، وهلاك عياله ، فلم يلزمه ، كما لو أمكنه إنجاء الغريق بتغريق نفسه . ولأن في بذله إلقاء بيده إلى التهلكة ، وقد نهى الله عن ذلك" انتهى.
فلا يجوز إنجاء الغريق بتغريق نفسه.
وكذا لا يؤثر غيره بالطعام أو الشراب، إذا كان في ذلك هلاك نفسه.
قال في "شرح منتهى الإرادات" (3/ 314): " (ومن لم يجد) ما يسد رمقه (إلا طعام غيره : فربه المضطر ، أو الخائف أن يُضطر : أحق به) ؛ لمساواته الآخر في الاضطرار ، وانفراده بالملك؛ أشبه غير حالة الاضطرار .
(وليس له) أي: رب الطعام إذا كان كذلك (إيثاره)، أي: غيره به؛ لئلا يلقي بيده إلى التهلكة" انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "إذا اضطر إلى مال الغير، فإن صاحب المال إن كان مضطراً إليه فهو أحق به.
مثاله: رجل معه خبزة وهو جائع وصاحبه جائع، وليس معه خبز، فالصاحب محتاج إلى عين مال الغير، لكن الغير ـ أيضاً ـ محتاج إليه، ففي هذه الحال لا يحل للصاحب أن يأخذ مال الغير؛ لأن صاحبه أحق به منه .
ولكن هل يجوز لصاحبه أن يؤثره أو لا؟
الجواب: المذهب أن الإيثار في هذه الحال لا يجوز، وقد سبق لنا قاعدة في ذلك، وهي أن الإيثار بالواجب غير جائز، ومن أمثلتها في باب التيمم إذا كان الإنسان ليس معه من الماء إلا ما يكفي لطهارته، ومعه آخر يحتاج إلى ماءٍ فلا يعطيه إياه والثاني يتيمَّم؛ لأن هذا إيثار بالواجب، والإيثار بالواجب حرام.
وعلى هذا : فإذا كان صاحب الطعام محتاجاً إليه، يعني مضطراً إليه ، كضرورة الصاحب: فإنه لا يجوز أن يؤثر به الصاحب؛ لأن هذا يجب عليه أن ينقذ نفسه، وقد قال النبي عليه الصلاة
والسلام: ابدأ بنفسك ، فلا يجوز أن يؤثر غيره؛ لوجوب إنقاذ نفسه من الهلكة قبل إنقاذ غيره، هذا هو المشهور من المذهب.
وذهب ابن القيم ـ رحمه الله ـ إلى أنه يجوز في هذه الحال أن يؤثر غيره بماله .
ولكن المذهب في هذا أصح، وأنه لا يجوز، اللهم إلا إذا اقتضت المصلحة العامة للمسلمين أن يؤثره، فقد نقول: إن هذا لا بأس به، مثل لو كان هذا الصاحب المحتاج رجلاً يُنتفع به في الجهاد في سبيل الله، أو رجلاً عالماً ينفع الناس بعلمه، وصاحب الماء المالك له، أو صاحب الطعام رجل من عامة المسلمين، فهنا قد نقول: إنه في هذه الحال، مراعاة للمصلحة العامة: له أن يؤثره، وأما مع عدم المصلحة العامة فلا شك أنه يجب على الإنسان أن يختص بهذا الطعام الذي لا يمكن أن ينقذ به نفسه، وصاحبه" انتهى من "الشرح الممتع" (15/ 40).
وجوز الشافعية أن يؤثر المضطر غيره بما فيه حفظ النفس، إذا كان مسلما، أما الكافر فلا يجوز إيثاره.
قال النووي رحمه الله: "إذا وجد المضطر طعاما حلالا لغيره فله حالان.
أحدهما: أن يكون مالكه حاضرا. فإن كان مضطرا إليه، فهو أولى به، وليس للأول أخذه منه إذا لم يفضل عن حاجته ...
فإن آثر المالك غيره على نفسه، فقد أحسن. قال الله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) .
وإنما يؤثر على نفسه مسلما.
فأما الكافر فلا يؤثره، حربيا كان أو ذميا، وكذا لا يؤثر بهيمة على نفسه" انتهى من "روضة الطالبين" (3/ 285).
وينظر: "المجموع" (9/ 45).
والخلاصة :
أنه لا يجوز للمسلم أن ينقذ أحدًا ويهلك نفسه ، وعلى القول بجواز ذلك – وهو اختيار ابن القيم- فإنه يقيد بما إذا كان المنقَذ مسلمًا . كما هو مذهب الشافعي .
والله أعلم.