الحمد لله.
دين الله تعالى دين محكم لا اختلاف فيه.
قال الله تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا النساء /82 .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" قد استقرت شريعته سبحانه أن حكم الشيء حكم مثله، فلا تفرق شريعته بين متماثلين أبدا، ولا تجمع بين متضادين ...
فبحكمته وعدله ظهر خلقه وشرعه، وبالعدل والميزان قام الخلق والشرع، وهو التسوية بين المتماثلين، والتفريق بين المختلفين " انتهى من "زاد المعاد" (4 / 248).
ومن ذلك التذكية بالصيد والذبح؛ فالذكاة بالصيد : هي من جنس الذكاة بالذبح والنحر، يشترط فيها إراقة الدم، ويشملها النص النبوي: مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فَكُلْ رواه البخاري (5503) ، ومسلم (1968) من حديث رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه.
فلا يحل الصيد حتى تكون آلة الصيد -كالسهم أو البندقية- أصابته بحدها ، وأنهرت دمه ، فإن أصابته بعرضها ، أو ضربه الصياد بحجر أو خشبة ، فمات : فإنه لا يحل ، لأنه لم يحصل منه إراقة الدم .
عَنِ عَدِيِّ بْن حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ المِعْرَاضِ، فَقَالَ: إِذَا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، فَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ ، فَقَتَلَ : فَإِنَّهُ وَقِيذٌ ؛ فَلاَ تَأْكُلْ رواه البخاري (5476) ومسلم (1929)، وفي رواية لهما: كُلْ مَا خَزَقَ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ : فَلاَ تَأْكُلْ البخاري (5477 ) ، ومسلم (1929).
قال الصنعاني في "سبل السلام" :
"اخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الْمِعْرَاضِ عَلَى أَقْوَالٍ ، لَعَلَّ أَقْرَبَهَا مَا قَالَهُ ابْنُ التِّينِ : إنَّهُ عَصًا فِي طَرَفِهَا حَدِيدَةٌ يَرْمِي بِهِ الصَّائِدُ ؛ فَمَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَهُوَ ذَكِيٌّ يُؤْكَلُ ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَهُوَ وَقِيذٌ، أَيْ: مَوْقُوذٌ .
وَالْمَوْقُوذُ : مَا قُتِلَ بِعَصًا ، أَوْ حَجَرٍ ، أَوْ مَا لَا حَدَّ فِيهِ ، وَالْمَوْقُوذَةُ : الْمَضْرُوبَةُ بِخَشَبَةٍ حَتَّى تَمُوتَ .
وَفِي الْحَدِيثِ إشَارَةٌ إلَى آلَةٍ مِنْ آلَاتِ الِاصْطِيَادِ ، وَهِيَ الْمُحَدَّدُ ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ إذَا أَصَابَ بِحَدِّ الْمِعْرَاضِ : أَكَلَ ؛ فَإِنَّهُ مُحَدَّدٌ ، وَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ : فَلَا يَأْكُلْ .
وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ صَيْدُ الْمُثَقَّلِ .
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَالثَّوْرِيُّ ... وهَذَا هُوَ الصَّوَابُ" انتهى .
ولا يباح الصيد الذي يموت خنقا في الشبكة والفخ ، لأنه لم يجرح ، ولم يُنهر دمه .
قال ابن المنذر رحمه الله تعالى:
" وهذا قول عوام أهل العلم، والسنة تدل على ما قالوه" انتهى من "الإشراف" (3 / 465).
وإنما اختلف الصيد عن الذبح والنحر في موضع إراقة الدم؛ فخفف في الصيد للحاجة، ومشقة الإمساك به؛ فكانت إراقة دمه تحصل من أي مكان من جسمه، ولا يشترط أن يصاب في الرقبة.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" ويشترط ـ أيضا ـ أن يجرح الصيد، بحيث يكون قتله للصيد بالجرح .
وضد ذلك : أن يكون بالثقل، فإذا كان بالثقل فلا يحل .
والدليل ما سبق: ( ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ) ؛ فإنه شامل للذبح والصيد .
إلا أن الصيد يختلف عن الذبح بأنه : في الذبح يشترط قطع الحلقوم والمريء، أو الودجين، على حسب الخلاف السابق، أما هنا : فيكون في أي موضع، وهذا مما يوسع فيه في باب الصيد على باب الذبائح، أن محل إنهار الدم في الذبائح الرقبة، أما هذا فليس بمعين المكان " انتهى من "الشرح الممتع" (15 / 101 - 102).
ولأجل هذه الحاجة ، ومراعاة المشقة في مثلها : جعل الشرع حكم بهيمة الأنعام ، إذا فرت وتعذّر الإمساك بها، كحكم الصيد في ذكاتها ، فتذكى كما يذكى الصيد ، في أي موضع يقدر عليه من بدنها .
عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: " نَدَّ مِنا بَعِيرٌ ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِهَذِهِ الإِبِلِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الوَحْشِ، فَإِذَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا شَيْءٌ ، فَافْعَلُوا بِهِ هَكَذَا رواه البخاري (5509) ، ومسلم (1968).
وبوّب عليه البخاري " بَابُ مَا نَدَّ مِنَ البَهَائِمِ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الوَحْشِ.
وَأَجَازَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " مَا أَعْجَزَكَ مِنَ البَهَائِمِ مِمَّا فِي يَدَيْكَ ، فَهُوَ كَالصَّيْدِ، وَفِي بَعِيرٍ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ: مِنْ حَيْثُ قَدَرْتَ عَلَيْهِ ، فَذَكِّهِ " ، وَرَأَى ذَلِكَ عَلِيٌّ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ " انتهى.
والحاصل :
أن الصيد كالذبح ، لا يحل به الحيوان حتى يحصل إنهار الدم ، ولكن خفف في الصيد فجعل مكان إنهار الدم أي مكان من الحيوان .
والله أعلم.