الحمد لله.
أولا:
إذا عقد الرجل على امرأة: حرمت عليه أمها تحريما مؤبدا، ولو طلق البنت بعد العقد، أو ماتت؛ لقوله تعالى في المحرمات: وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ النساء/23 .
فلا ندري كيف أقدم هذا الرجل على النكاح المحرم المجمع على تحريمه، وأي جاهل عقد له؟!
ولا عبرة بكونه يظن أن زوجته تحل له أو لا تحل له ، فأمها محرمة على التأبيد كما تقدم ، ومن فعل ذلك مع العلم كان زانيا مستوجبا الحد ، وأما مع الجهل فنسأل الله أن يعفو ويتجاوز عنهما.
والواجب فسخ هذا النكاح فورا إن كان باقيا.
ثانيا:
من تزوج امرأة زواجا صحيحا ودخل بها حرمت عليه بنتها تحريما مؤبدا؛ لقوله تعالى: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ النساء/23 .
لكن هذا الرجل المسئول عنه قد تزوج الأم، وزواجه منها باطل محرم مجمع على تحريمه، فهل يوجب تحريم البنت عليه؟
أما الحنفية والحنابلة : فيرون أن الدخول بالأم ، ولو كان بالزنى : فإنه يحرم البنت.
وأما المالكية والشافعية : فيرون أن الزنى ، لا يحرم الحلال ، لكن الوطء بشبهة، أو بعقد فاسد مختلف فيه، أو بعقد باطل مجمع على تحريمه ، إن كان صاحبه لا يقام عليه حد الزنى ، بسبب الشبهة ؛ فإنه يلحق بالعقد الصحيح، ويحرّم الحلال.
قال الدرير في "الشرح الكبير" (2/ 251): "( وحرَّم العقدُ ) أي عقد النكاح على الوجه المتقدم ( وإن فسد ، إن لم يجمع عليه ) بأن اختلف العلماء فيه ... كمُحرمٍ وشغار وتزويج المرأة نفسها ، فعقده ينشر الحرمة كالصحيح .
( وإلا ) ؛ بأن أُجمع على فساده ( ف ) المُحَرِّم : ( وطؤه ) ، وكذا مقدماته ، ( إن درأ ) وطؤه ( الحد ) عن الواطئ ، كنكاح المعتدة ، وذات محرم ورضاع ، غير عالم ، فإن علم ، حُدَّ ؛ إلا المعتدة ، فقولان .
فإن لم يدرأ الحد ، كان من الزنا" انتهى.
قال الدسوقي في حاشيته عليه: "( قوله : وحَرَّم العقد ) أي : ونشر العقد الحرمة، فإذا عقد على امرأة ، حرمت على أصوله وعلى فصوله ، وحرم عليه أصولها . هذا إذا كان العقد صحيحا ، بل وإن كان مختلفا في فساده..
( قوله : غير عالم ) قيد في عدم الحد عن الثلاثة ، ومثل الثلاثة : الخامسة .
وقوله : فإن لم يدرأ الحد : أي ، فإن علم بأنها ذات محرم ، أو ذات رضاع ، أو أنها معتدة ، وأنها خامسة.
وقوله : إلا المعتدة فقولان ، أي : إلا العالم بأنها معتدة ، ففي حده قولان" انتهى.
وكذلك صرح الشافعية بأن الوطء بالشبهة ، والعقد الفاسد إذا نشأ عنه وطء، فإنه ينشر المحرمية.
قال زكريا الأنصاري رحمه الله في "شرح المنهج" : " واعلم أنه يعتبر في زوجتي الابن والأب، وفي أم الزوجة ، عند عدم الدخول بهن : أن يكون العقد صحيحا.
(ومن وطئ) في الحياة - وهو واضح - (امرأة بملك ، أو شبهة منه) ، كأن ظنها زوجته ، أو أمته، أو وطئ بفاسد نكاح : (حرم عليه أمها وبنتها ، وحرمت على أبيه وابنه) ؛ لأن الوطء بملك اليمين نازل منزلة عقد النكاح ، وبشبهة يثبت النسب والعدة، فيثبت التحريم، سواء أوجد منها شبهة ، أيضا أم لا.
وخرج بما ذكر : من وطئها بزنا ، أو باشرها بلا وطء ، فلا تحرم عليه أمها ، ولا بنتها ولا تحرم هي على أبيه وابنه لأن ذلك لا يثبت نسبا ولا عدة ".
قال الجمل في حاشيته عليه (4/ 181): " (قوله أن يكون العقد صحيحا) : لأن الفاسد لا حرمة له، ما لم ينشأ عنه وطء ، أو استدخال؛ لأن كلا منهما يشبهه، وهو محرِّم" انتهى.
وقال أبو بكر شطا في " إعانة الطالبين" (3/ 335): " وقوله عند عدم الدخول بهن: الظرف متعلق بيعتبر، والضمير يعود على الزوجات الثلاث.
وخرج به : ما إذا دخل بهن ، فلا يعتبر ما ذكر؛ لأنهن يحرمن بالدخول عليهن ، ولو كان العقد فاسدا؛ لأنها من قبيل الموطوءة بشبهة ، وهي حرام، كما سيأتي.
وقوله: أن يكون العقد صحيحا، نائب فاعل يعتبر.
وخرج به : ما لو كان العقد فاسدا ، فلا يحرمن، لكن عند عدم الدخول بهن؛ وإلا حرمن به، كما علمت.
وهذا الشرط لا يأتي في بنت الزوجة، كما سيذكره، فإنها تحرم بالدخول: سواء كان العقد صحيحا أو فاسدا.
(والحاصل): أن من حرم بالعقد ، لا بد في تحريمه من صحة العقد ، إلا إن حصل دخول بالفعل، فيحصل التحريم بالوطء، لا بالعقد.
ومن حرم بالدخول ، كالربيبة : فلا يعتبر فيه صحة العقد" انتهى.
فتحصّل من هذا : أن من عقد على أم زوجته - ولو كان عقدا مجمعا على بطلانه، ووطئها، لكن مع الشبهة التي ترفع الحد- فإنه تحرم عليه بنتها. هذا مذهب المالكية والشافعية.
وأما الحنفية والحنابلة، فعندهم مجرد وطء الأم ، ولو بالزنى : يحرّم البنت.
قال ابن قدامة رحمه الله: " فصل: والوطء على ثلاثة أضرب:
مباح: وهو الوطء في نكاح صحيح، أو ملك يمين، فيتعلق به تحريم المصاهرة بالإجماع، ويعتبر محرما لمن حرمت عليه؛ لأنها حرمت عليه على التأبيد، بسبب مباح، أشبه النسب.
الثاني: الوطء بالشبهة، وهو الوطء في نكاح فاسد، أو شراء فاسد، أو وطء امرأة ظنها امرأته أو أمته، أو وطء الأمة المشتركة بينه وبين غيره، وأشباه هذا : يتعلق به التحريم ، كتعلقه بالوطء المباح ، إجماعا.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من علماء الأمصار، على أن الرجل إذا وطئ امرأة بنكاح فاسد، أو بشراء فاسد، أنها تحرم على أبيه وابنه وأجداده وولد ولده.
وهذا مذهب مالك، والأوزاعي، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور وأصحاب الرأي. ولأنه وطء ، يلحق به النسب، فأثبت التحريم، كالوطء المباح.
ولا يصير به الرجل محرما لمن حرمت عليه، ولا يباح له به النظر إليها؛ لأن الوطء ليس بمباح؛ ولأن المحرمية تتعلق بكمال حرمة الوطء؛ لأنها إباحة؛ ولأن الموطوءة لم يستبح النظر إليها، فلأن لا يستبيح النظر إلى غيرها أولى.
الثالث: الحرام المحض، وهو الزنا، فيثبت به التحريم، على الخلاف المذكور، ولا تثبت به المحرمية، ولا إباحة النظر؛ لأنه إذا لم يثبت بوطء الشبهة، فبالحرام المحض أولى، ولا يثبت به نسب، ولا يجب به المهر إذا طاوعته فيه" انتهى من "المغني" (7/ 118).
وعليه: فلا يحل لهذا الرجل أن يعود ويتزوج البنت، في قول جميع المذاهب، فإن فعل كان عقده باطلا، وكان زانيا يستوجب الحد.
ولا يحل له أن يبقى مع الأم لأن نكاحها باطل كما تقدم.
والله أعلم.