هل صح ما جاء في المرويات والذي يورده بعض المؤرخين من أهل السنة في كتبهم: أن الخليفة عثمان بن عفان غلب على أمره في آخر حياته، فاستغله بعض بني أمية؛ لقضاء شهواتهم الدنيوية، خاصة مروان ابن الحكم، وبذلك أثار حفيظة علي رضي الله عنه، والكثير من الصحابة، والرعية، وقد عاتبه علي قائلا :" والله ما مروان بذي رأي في دينه، ولا في نفسه، اذهبت شرفك، وغلبت على أمرك"؟ كما إن هذا الخلاف إن وجد فقد كان في شأن دنيوي، ورضوان الله تعالى عن الجميع.
الحمد لله.
أولا:
هذا الخبر رواه الطبري في "التاريخ" (4 /360-362) ، قال:
قال محمد بن عمر: فحدثني علي بن عمر، عن أبيه، قال: " ثم إن عليا جاء عثمان بعد انصراف المصريين... "، وفيه: " فجاء علي عليه السلام مغضبا، حتى دخل على عثمان، فقال: أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحرّفك عن دينك وعن عقلك، مثل جمل الظعينة يقاد حيث يسار به، والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه، وايم الله إني لأراه سيوردك ثم لا يصدرك، وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك، أذهبت شرفك، وغلبت على أمرك".
وهذا الخبر إسناده ضعيف جدا فهو من أخبار محمد بن عمر الواقدي، وهو وإن كان ممن يستأنس به في أخبار التاريخ إلا أنه ليس بحجة.
قال النووي رحمه الله تعالى:
" الواقدي رحمه الله ضعيف عند أهل الحديث وغيرهم، لا يحتج برواياته المتصلة " انتهى من "المجموع" (1 / 114).
وقال الذهبي رحمه الله تعالى:
" جمع فأوعى وخلط الغث بالسمين، والخرز بالدر الثمين فاطرحوه لذلك، ومع هذا فلا يستغنى عنه في المغازي، وأيام الصحابة وأخبارهم...
وقد تقرر أن الواقدي ضعيف، يحتاج إليه في الغزوات، والتاريخ، ونورد آثاره من غير احتجاج...
لا عبرة بتوثيق من وثقه إذ قد انعقد الإجماع اليوم على أنه ليس بحجة، وأن حديثه في عداد الواهي رحمه الله " انتهى من"سير أعلام النبلاء" (9 /454 –469).
وخاصة أن هذا من أخبار الفتنة التي حصلت بين الصحابة، وقد كثر حولها الكذب.
قال ابْنِ سِيرِينَ: " لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الْإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ، فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلَا يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ" رواه مسلم في "مقدمة صحيحه" (1/15).
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى:
" وقوله: ( فلما وقعت الفتنة قالوا : سموا لنا رجالكم ) هذه الفتنة يعني بها - والله أعلم -: فتنة قتل عثمان، وفتنة خروج الخوارج على علي ومعاوية؛ فإنهم كفروهما حتى استحلوا الدماء والأموال...
فيعني بذلك - والله أعلم -: أن قتلة عثمان والخوارج لما كانوا فساقا قطعا، واختلطت أخبارهم بأخبار من لم يكن منهم، وجب أن يبحث عن أخبارهم فترد، وعن أخبار غيرهم ممن ليس منهم فتقبل، ثم يجري الحكم في غيرهم من أهل البدع كذلك " انتهى من "المفهم" (1/123).
ثم إن مروان بن الحكم كان مجرد كاتب لعثمان رضي الله عنه ولم تكن له سلطة، ولم يكن عثمان متبعا لرأيه في الفتنة، وأظهر دليل على هذا أن الأخبار ومنها هذا الخبر تظهر أن مروان كان ميّالا إلى معاقبة وقتل من خرج على عثمان رضي الله عنه، بينما كان عثمان حليما برعيته حيث استجاب لهم في كل ما طلبوه، وفضّل الإمساك عن قتالهم حتى قتلوه رضي الله عنه، فأين تأثير مروان على عثمان رضي الله عنه؟!
ثانيا:
عثمان رضي الله عنه ممن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بصلاحيته لمنصب الخلافة، وقوته على تحمّل أعبائها وعدم ضعفه.
فأما شهادة النبي صلى الله عليه وسلم، فوردت في حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا عُثْمَانُ إِنَّهُ لَعَلَّ اللَّهَ يُقَمِّصُكَ قَمِيصًا، فَإِنْ أَرَادُوكَ عَلَى خَلْعِهِ فَلَا تَخْلَعْهُ لَهُمْ رواه الإمام أحمد في "المسند" (41 / 113)، والترمذي (3705)، وقال " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ "، وصححه الشيخ الألباني في "صحيح سنن الترمذي" (3 /517)، وكذا محققو المسند.
والقميص هنا كناية عن الخلافة كما نص أهل العلم.
قال ابن الملك رحمه الله تعالى:
" أي: يُلبسك قميصا، أراد منه الخلافة هنا.
( فإن أرادوك على خَلعه فلا تخلَعْه لهم )؛ يعني: إن الله تعالى سيجعلك خليفة، فإن النّاس إنْ قصدوا عزلك عنها، فلا تعزِل نفسك عنها لأجلهم، فلهذا كان عثمان ما عزل نفسه حين حاصروه يوم الدار" انتهى من"شرح مصابيح السنة " (6/433).
فالنبي صلى الله عليه وسلم حثه على عدم التنازل عنها، فلو كان عثمان ضعيفا عن تحمل تكاليفها حتى تغلبه حاشيته، لنصحه النبي صلى الله عليه وسلم كما نصح أبا ذر رضي الله عنه، كما عند الإمام مسلم (1825) عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ:
"قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا).
وأما شهادة المؤمنين له بقوته على تحمل أمانة الخلافة، فتظهر بترشيح عمر رضي الله عنه له وهو من هو في الحزم والشدة. ثم بإجماع الرعية عليه، وخاصة أهل الرأي منهم.
عَنْ المِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ: " أَنَّ الرَّهْطَ الَّذِينَ وَلَّاهُمْ عُمَرُ اجْتَمَعُوا فَتَشَاوَرُوا، فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَسْتُ بِالَّذِي أُنَافِسُكُمْ عَلَى هَذَا الأَمْرِ، وَلَكِنَّكُمْ إِنْ شِئْتُمُ اخْتَرْتُ لَكُمْ مِنْكُمْ. فَجَعَلُوا ذَلِكَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَلَمَّا وَلَّوْا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَمْرَهُمْ، فَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَتَّى مَا أَرَى أَحَدًا مِنَ النَّاسِ يَتْبَعُ أُولَئِكَ الرَّهْطَ، وَلاَ يَطَأُ عَقِبَهُ، وَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُشَاوِرُونَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي، حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَصْبَحْنَا مِنْهَا، فَبَايَعْنَا عُثْمَانَ، قَالَ المِسْوَرُ: طَرَقَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بَعْدَ هَجْعٍ مِنَ اللَّيْلِ، فَضَرَبَ البَابَ حَتَّى اسْتَيْقَظْتُ، فَقَالَ: أَرَاكَ نَائِمًا!! فَوَاللَّهِ مَا اكْتَحَلْتُ هَذِهِ ، الثلاثَ ، بِكَثيرِ نَوْمٍ، انْطَلِقْ فَادْعُ الزُّبَيْرَ وَسَعْدًا! فَدَعَوْتُهُمَا لَهُ، فَشَاوَرَهُمَا، ثُمَّ دَعَانِي، فَقَالَ: ادْعُ لِي عَلِيًّا! فَدَعَوْتُهُ، فَنَاجَاهُ حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ، ثُمَّ قَامَ عَلِيٌّ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ عَلَى طَمَعٍ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَخْشَى مِنْ عَلِيٍّ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي عُثْمَانَ! فَدَعَوْتُهُ، فَنَاجَاهُ حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا المُؤَذِّنُ بِالصُّبْحِ، فَلَمَّا صَلَّى لِلنَّاسِ الصُّبْحَ، وَاجْتَمَعَ أُولَئِكَ الرَّهْطُ عِنْدَ المِنْبَرِ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَنْ كَانَ حَاضِرًا مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَأَرْسَلَ إِلَى أُمَرَاءِ الأَجْنَادِ، وَكَانُوا وَافَوْا تِلْكَ الحَجَّةَ مَعَ عُمَرَ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا تَشَهَّدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، يَا عَلِيُّ إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ النَّاسِ، فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ، فَلاَ تَجْعَلَنَّ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلًا. فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَسنّة رَسُولِهِ، وَالخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ، فَبَايَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ، وَأُمَرَاءُ الأَجْنَادِ وَالمُسْلِمُونَ" رواه البخاري (7207).
ثالثا:
تقريب عثمان رضي الله عنه لقرابته لم يكن ظلما ولا ضعفا منه، بل هو اجتهاد اجتهده، فهو رأى أنّ قرابته جزء من الرعية، فلا بأس بتولية من يصلح منهم للولاية، خاصة وأن قرابته من بني أمية لهم خبرة وقدرة على القيام بهذه الولايات، ولذا استعمل النبي صلى الله عليه وسم عددا منهم كولاة وعمال، وكذا أبو بكر وعمر رضي الله عنه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" إن بني أمية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعملهم في حياته، واستعملهم بعده من لا يتهم بقرابة فيهم؛ أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه. ولا نعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من بني عبد شمس؛ لأنهم كانوا كثيرين، وكان فيهم شرف وسؤدد، فاستعمل النبي صلى الله عليه وسلم في عزة الإسلام على أفضل الأرض مكة عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية، واستعمل على نجران أبا سفيان بن حرب بن أمية، واستعمل أيضا خالد بن سعيد بن العاص على صدقات بني مذحج، وعلى صنعاء اليمن، فلم يزل عليها حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستعمل عثمان بن سعيد بن العاص على تيماء وخيبر وقرى عرينة، واستعمل أبان بن سعيد بن العاص على بعض السرايا، ثم استعمله على البحرين فلم يزل عليها بعد العلاء بن الحضرمي حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم...
وكذلك أبو بكر وعمر بعده، فقد ولَّى أبو بكر يزيدَ بن أبي سفيان بن حرب في فتوح الشام، وأقره عمر، ثم ولى عمر بعده أخاه معاوية.
وهذا النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم في استعمال هؤلاء ثابت مشهور عنه، بل متواتر عند أهل العلم، ومنه متواتر عند علماء الحديث ، ومنه ما يعرفه العلماء منهم، ولا ينكره أحد منهم... " انتهى. "منهاج السنة" (6 /192-193).
ثم إن عثمان رضي الله عنه بتقريبه لأقاربه لم يمنع الحقوق عن أصحابها، فلم يعط قرابته أموال الرعية، بل كان رضي الله عنه كريما مع رعيته.
روى ابن شبّة في "تاريخ المدينة" (3/1023) بإسناد ظاهره الصحة، حيث قال:
حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ، يَقُولُ: " أَدْرَكْتُ عُثْمَانَ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ رَاهَقْتُ الْحُلُمَ، فَسَمِعْتُهُ يَخْطُبُ، وَمَا مِنْ يَوْمٍ إِلَّا وَهُمْ ... يَقْسِمُونَ فِيهِ خَيْرًا، يُقَالُ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ اغْدُوا عَلَى أَرْزَاقِكُمْ، فَيَغْدُونَ وَيَأْخُذُونَهَا وَافِرَةً. يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ اغْدُوا عَلَى كِسْوَتِكُمْ، فَيُجَاءُ بِالْحُلَلِ فَتُقْسَمُ بَيْنَهُمْ. قَالَ الْحَسَنُ: حَتَّى وَاللَّهِ سَمِعَ أَوْسٌ يُقَالُ: اغْدُوا السَّمْنَ وَالْعَسَلَ، قَالَ الْحَسَنُ: وَالْعَدُوُّ يَنْفِرُ، وَالْعَطِيَّاتُ دَارَّةٌ، وَذَاتُ الْبَيْنِ حَسَنٌ، وَالْخَيْرُ كَثِيرٌ، مَا عَلَى الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ يَخَافُ مُؤْمِنًا".
ولم يكن لأقاربه سلطة عليه رضي الله عنه، بل كان يعاقب منهم من يستحق العقوبة.
روى البخاري (3696) عن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الخِيَارِ: " أَنَّ المِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ، قَالاَ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُكَلِّمَ عُثْمَانَ لِأَخِيهِ الوَلِيدِ، فَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِيهِ؟ فَقَصَدْتُ لِعُثْمَانَ حَتَّى خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ، قُلْتُ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، وَهِيَ نَصِيحَةٌ لَكَ، قَالَ: يَا أَيُّهَا المَرْءُ - قَالَ مَعْمَرٌ أُرَاهُ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ - فَانْصَرَفْتُ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِما، إِذْ جَاءَ رَسُولُ عُثْمَانَ فَأَتَيْتُهُ، فَقَالَ: مَا نَصِيحَتُكَ؟ فَقُلْتُ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الكِتَابَ، وَكُنْتَ مِمَّنِ اسْتَجَابَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَاجَرْتَ الهِجْرَتَيْنِ، وَصَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَأَيْتَ هَدْيَهُ، وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِي شَأْنِ الوَلِيدِ، قَالَ: أَدْرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْتُ: لاَ، وَلَكِنْ خَلَصَ إِلَيَّ مِنْ عِلْمِهِ مَا يَخْلُصُ إِلَى العَذْرَاءِ فِي سِتْرِهَا، قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالحَقِّ، فَكُنْتُ مِمَّنِ اسْتَجَابَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَآمَنْتُ بِمَا بُعِثَ بِهِ، وَهَاجَرْتُ الهِجْرَتَيْنِ، كَمَا قُلْتَ، وَصَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَايَعْتُهُ، فَوَاللَّهِ مَا عَصَيْتُهُ وَلاَ غَشَشْتُهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ مِثْلُهُ، ثُمَّ عُمَرُ مِثْلُهُ، ثُمَّ اسْتُخْلِفْتُ، أَفَلَيْسَ لِي مِنَ الحَقِّ مِثْلُ الَّذِي لَهُمْ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَمَا هَذِهِ الأَحَادِيثُ الَّتِي تَبْلُغُنِي عَنْكُمْ؟ أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ شَأْنِ الوَلِيدِ، فَسَنَأْخُذُ فِيهِ بِالحَقِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ دَعَا عَلِيًّا، فَأَمَرَهُ أَنْ يَجْلِدَهُ، فَجَلَدَهُ ثَمَانِينَ".
وكان يعزل منهم من تشتكي منه الرعية، حيث كان حليما رحيما برعيته، كما يلخص هذا الحافظ ابن حجر، حيث قال رحمه الله تعالى:
" وكان سبب قتله أنّ أمراء الأمصار كانوا من أقاربه، كان بالشام كلّها معاوية، وبالبصرة سعيد بن العاص، وبمصر عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح، وبخراسان عبد اللَّه بن عامر، وكان من حجّ منهم يشكو من أميره، وكان عثمان ليّن العريكة، كثير الإحسان والحلم، وكان يستبدل ببعض أمرائه فيرضيهم، ثم يعيده بعد، إلى أن رحل أهل مصر يشكون من ابن أبي سرح، فعزله، وكتب له كتابا بتولية محمد بن أبي بكر الصديق، فرضوا بذلك، فلما كانوا في أثناء الطريق رأوا راكبا على راحلة، فاستخبروه، فأخبرهم أنه من عند عثمان باستقرار ابن أبي سرح ومعاقبة جماعة من أعيانهم، فأخذوا الكتاب ورجعوا وواجهوه به، فحلف أنه ما كتب ولا أذن، فقالوا: سلّمنا كاتبك، فخشي عليه منهم القتل، وكان كاتبه مروان بن الحكم، وهو ابن عمه، فغضبوا وحصروه في داره. واجتمع جماعة يحمونه منهم، فكان ينهاهم عن القتال إلى أن تسوّروا عليه من دار إلى دار، فدخلوا عليه فقتلوه، فعظم ذلك على أهل الخير من الصحابة وغيرهم، وانفتح باب الفتنة، فكان ما كان، واللَّه المستعان " انتهىى من"الإصابة" (7 / 105 – 106).
ثم لو كان في تعيين الأقارب مذمة لذم بهذا، فقد كان علي رضي الله عنه أيضا يفعل ذلك، فقد كان كثير من ولاته من أقاربه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" ومن العجب أن الشيعة ينكرون على عثمان، ما يدعون أن عليا كان أبلغ فيه من عثمان. فيقولون: إن عثمان ولى أقاربه من بني أمية. ومعلوم أن عليا ولى أقاربه من قبل أبيه وأمه، كعبد الله وعبيد الله ابني العباس. فولى عبيد الله بن عباس على اليمن، وولى على مكة والطائف قثم بن العباس. وأما المدينة فقيل: إنه ولى عليها سهل بن حنيف. وقيل: ثمامة بن العباس. وأما البصرة فولى عليها عبد الله بن عباس. وولى على مصر ربيبه محمد بن أبي بكر الذي رباه في حجره " انتهى من"منهاج السنة" (6/184).
رابعا:
لم يكن الصحابة رضوان الله عليهم يشكون من اجتهادات عثمان رضي الله عنه، وغاية ما تكلم به الصحابة أنهم ربما نصحوا عثمان رضي الله عنه بعدما بدأ تكاثر أهل الفتن، خاصة في مصر والعراق، فالشكوى من تولية عثمان لأقاربه، إنما كان مصدرها أهل الفتن تطلعا للإمارة ومزاحمة عليها، كما يلخص هذا الحال ابن خلدون رحمه الله تعالى، حيث يقول:
" لما استكمل الفتح واستكمل للملّة الملك، ونزل العرب بالأمصار في حدود ما بينهم وبين الأمم، من البصرة والكوفة والشام ومصر، وكان المختصون بصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهداه وآدابه المهاجرين والأنصار، من قريش وأهل الحجاز ومن ظفر بمثل ذلك من غيرهم.
وأما سائر العرب من بني بكر بن وائل وعبد القيس وسائر ربيعة والأزد وكندة وتميم وقضاعة وغيرهم، فلم يكونوا من تلك الصحبة بمكان إلّا قليلا منهم، وكان لهم في الفتوحات قدم، فكانوا يرون ذلك لأنفسهم، مع ما يدين به فضلاؤهم من تفضيل أهل السابقة من الصحابة ومعرفة حقهم، وما كانوا فيه من الذهول والدهش لأمر النبوة، وتردّد الوحي وتنزل الملائكة، فلما انحسر ذلك العباب وتنوسي الحال بعض الشيء، وذلّ العدو واستفحل الملك، كانت عروق الجاهلية تنفض، ووجدوا الرئاسة عليهم للمهاجرين والأنصار من قريش وسواهم، فأنفت نفوسهم منه، ووافق أيام عثمان، فكانوا يظهرون الطعن في ولاته بالأمصار، والمؤاخذة لهم باللحظات والخطرات، والاستبطاء عليهم في الطاعات، والتجني بسؤال الاستبدال منهم والعزل، ويفيضون في النكير على عثمان. وفشت المقالة في ذلك من أتباعهم، وتنادوا بالظلم من الأمراء في جهاتهم " انتهى من"تاريخ ابن خلدون" (2 /586-587).
فالحاصل؛ أن عثمان رضي الله عنه كان من أصلح الناس للخلافة في زمنه إلى أن توفي رضي الله عنه، وتقريبه لأقاربه هو اجتهاد اجتهده، وهو من أهل الاجتهاد، وأكابر الأئمة في الدين والسياسة، بل لا يفضله أحد من هذه الأمة سوى أبي بكر وعمر؛ وقد كان رضي الله عنه يتصرف بما يراه خيرا لرعيته.
والله أعلم.