الحمد لله.
أولا:
أعطى الشرع الفتاة حرية اختيار زوجها، ونهى عن إجبارها على الزواج بمن لا ترغب، كما في حديث أَبي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لاَ تُنْكَحُ الأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلاَ تُنْكَحُ البِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ)
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ إِذْنُهَا؟
قَالَ: (أَنْ تَسْكُتَ) رواه البخاري (5136) ، ومسلم (1419).
وحاصل ذلك: أنه لا حرج على الفتاة أن ترفض من تقدم لخطبتها ، بشرط أن يكون رفضها لأسباب معقولة ، ومن تلك الأسباب :
أن يكون الخاطب ناقص الدين .
أو يكون سيء الخلق ، بحيث تخشى أن يسيء معاملتها ، بالضرب أو الكلام السيء ونحو ذلك .
أن يكون فقيرا ، لا يستطيع الإنفاق عليها ، بما يلائم مثلها ؛ مما يوقعها في حرج وضيق .
أن يكون دميم الخلقة ، بحيث تخشى أنها لن تستطيع أن تقوم بحقه ، مما يوقعها في الإثم والمعصية .
أن يكون كثير الأسفار ، فيتركها وحيدة في بيتها ، أو مع أهله أو أهلها ، فلا تشعر أنها ذات زوج .
... فكل هذه الأسباب أسباب صحيحة لرفض الفتاة من تقدم لخطبتها ، وقد دلت على اعتبارها أدلة من السنة ، فلا حرج على الفتاة أن ترد شابا فيه صفة من الصفات السابقة .
ولكن ذلك لا يعني أن تتعنت وتتشدد الفتاة أو أهلها في الاختيار ، ويريدون شخصا كاملا من كل وجه ، لا عيب فيه البتة ، فهذا لا وجود له في البشر ، فبعض الفتيات تشترط في خطيبها أن يكون ذا دين ، وخلق عالٍ ، وأن يكون وسيما ، وغنيا ، وذا وظيفة مرموقة ، وذا جاهٍ ومنزلة بين الناس ، ومن عائلة كبيرة ، وعلى درجة عالية من التعليم ... إلخ .
واجتماع هذه الصفات في شخصٍ : نادر للغاية ، ولا يكاد يصفو أمره.
فأين هو من اجتمعت فيه تلك الصفات ؟!
فعلى الفتاة أن تكون واقعية في اختيارها ، وتقدم من الصفات أهمها ، وتتنازل عن بعض الصفات التي ترى أنها من باب الكمال ، وأنها لن تؤثر على حياتها الزوجية ، فليس كل ما يتمناه المرء يدركه .
وأهم الصفات التي ينبغي التمسك بها وعدم التنازل عنها بحال : أن يكون الخاطب دينا ، وصاحب خلق ، كريم الأصل والمعشر للناس؛ فإن هذا هو الأساس الذي ستقوم عليه الأسرة ، وبدونه فالأسرة معرضة للانهيار والفشل .
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ) رواه الترمذي (1084) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وحسنه الألباني في "صحيح سنن الترمذي" .
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم : (إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ)
أَيْ : إِنْ لَمْ تُزَوِّجُوا مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ ، وَتَرْغَبُوا فِي مُجَرَّدِ الْحَسَبِ وَالْجَمَالِ أَوْ الْمَالِ: رُبَّمَا يَبْقَى أَكْثَرُ نِسَائِكُمْ بِلَا أَزْوَاجٍ , وَأَكْثَرُ رِجَالِكُمْ بِلَا نِسَاءٍ ، فَتَهِيجُ الْفِتَنُ وَالْفَسَادُ .
ينظر : "تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي" .
ثم بعد الدين : تنظر الفتاة في سائر الصفات – كما سبق – فقد تتنازل عن بعضها ، وقد ترضى بنسبة معقولة في بعضها الآخر ... وهكذا .
حتى لا تضيع على نفسها فرصة الزواج ، منتظرةً فتى أحلامها الذي قد لا يكون له وجود في الواقع ، وإنما هو من نسج خيالها .
ثانيا :
أما قلة الخطاب المتقدمين لك في الفترة الأخيرة : فذلك أمر طبيعي جدا ، ولا يدل على وجود سحر ولا غيره.
وإنما هو نتيجة لتكرر رفضك السابق .
فإن الشباب إذا علموا أن "فلانة" معجبة بنفسها ، ولا يعجبها أحدٌ ، وردت الكثير من الخطاب .. فالنتيجة لهذا : أن لا يتقدم لها أحد من الشباب ، حفظًا لماء وجهه من أن يتعالى عليه أحد ، أو يرفضه أحد – وهو في الوقت نفسه قد يرى نفسه كما ترين نفسك ، لا يعيبه شيء حتى يُرد !!
وتكون النتيجة بعد هذا ، أن يفوت الفتاة سن الزواج ، وتضطر في نهاية أمرها أن تقبل خاطبا ، قد رفضت من هم أفضل منه بكثير ، حيث لم تجد من ينصحها نصيحة خالصة ، أو يوجهها التوجيه السليم .
بل وجدت من أهلها إعانة لها على خطئها .
وهو ما لا نرجوه لك ، بل نرجو لك – ولجميع المسلمين- الخير حيثما كانوا .
ثالثا :
أما افتخار والدتك بك وتكبرها على الناس بسبب ذلك ، فالكبر من أقبح الذنوب وأكبرها ، وصاحبه مستحق للحرمان من دخول الجنة .
ولكن الله تعالى لا يعاقب أحدا بذنب أحد (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) الأنعام/164 .
غير أن الظاهر من كلامك أنك موافقة لوالدتك على ما تفعل ، وهذا معصية وذنب منك ، يخشى عليك من عاقبته ؛ فالكبر والخيلاء من ذميم الأخلاق التي لا يحبها الله من عباده : ( وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) لقمان/18
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (وَإِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ) رواه مسلم (2865) من حديث عياض بن حمار، رضي الله عنه.
والذي نرجوه لك من رحمة رب العالمين، أن يعافيك الله من ذلك كله؛ أن يعافيك مكن الفخر والعُجب، وأن يافيك من عاقبة ذلك، ووبال أمره.
وعلى كل حال ؛ فننصحك بالتوبة إلى الله ، وإعادة النظر في نفسك، وإلى نفسك، وتهذيبها ، والنظر فيما يصلحها ، وما يكون عليه صلاح أمرها في الدارين ، وأن تنصحي والدتك بترك ذلك كله ، والتواضع لله ، وحمد الله على نعمه ، وما رزقك من الجمال ، وحسن المنظر ، والافتقار إلى الله أن يحسن خلقك ، ومخبرك وباطنك ، كما حسن منظرك ؛ وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : (اللَّهُمَّ حَسَّنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي) رواه ابن حبان (959) وغيره، وصححه الألباني .
واعلمي يا أمة الله ، أن الزوج الصالح : رزق من رزق الله ، وفضل من عنده ، يؤتيه من يشاء من عباده ، وليست الهناء في العيش مع الزوج الملائم الصالح: معلقة على جمال أو دمامة ، أو طول أو قصر ، أو غنى أو فقر ؛ بل ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، فافتقري إلى رب البريات أن يتم عليك نعمته بالزوج الصالح الذي يصونك، ويعرف لك حقك ، كما أنعم عليك بجمال المنظر، وقد الله الله تعالى : (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) النساء/32.
فاسألي ربك ، يا أمة الله ، العليم الخبير ، الرحيم المنان : أن يمن عليك ، ويرزقك من فضله بالزوج الصالح، بفضله هو ، وإحسانه إليك ، لا بما تستحقينه من جمالك ، فإنك لا تستحقين على ربك شيئا ، وهو أيضا الذي منَّ عليك أول مرة ، ورزقك الجمال . فاشكريه ، وافتقري إليه.
ثم أعيدي النظر في شأنك ، وما يصلح من أمرك ، وما عليه الناس من حولك في مجتمعك ، وكوني واقعية في النظر إلى ذلك كله ، فإنما يأتيك زوجك ، ممن حولك ، لا من السماء ، ولا من خارج الحدود ، ونائي الديار .
فإذا فهمت ذلك ، فانظري في حال الناس من حولك ، وليكن اختيارك في أنسب المتاح لك ، وأولى المتقدمين، من بني جنسك، وبلدك .
يسر الله لك أمرك ، وجمل باطنك ، كما جمل ظاهرك، ورزقك الزوج الصالح الذي يعفك، ويكرمك.
والله أعلم .