الحمد لله.
أولًا :
يتعلق كلام الإمام ابن رجب رحمه الله بما ينفع من العلوم ، بالقصد الأول إليه ؛ فالعلم النافع ما احتاج إليه أهل الإسلام ، وليس فيه مضرة على دينهم ، ومنه علم الحساب ، قال رحمه الله : " وكذلك علم الحساب يحتاج منه إلى ما يعرف به حساب ما يقع من قسمة الفرائض والوصايا والأموال التي تقسم بين المستحقين لها، والزائد على ذلك مما لا ينتفع به إلا في مجرد رياضة الأذهان وصقالها لا حاجة إليه ويشغل عما هو أهم منه " ، انتهى من "فضل علم السلف "(3).
وعليه ؛ فلم يكن في عصر الإمام ابن رجب رحمه الله ما وصلت إليه الرياضيات الحديثة ، ودخولها في مجالات متعددة تعود بالنفع الكبير على العالم ، ويحتاجه أهل الإسلام .
فلهذا ؛ لا بأس بدراسة العلوم التي ثبت نفعها الآن ، وإن تعلق هذا النفع بالأمور الدنيوية ، فإن هذا من فروض الكفايات ، التي يجب على عموم الأمة تحصيل القدر الكافي منها .
ثانيًا :
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله :
" بيان العلم الذي هو فرض كفاية : اعلم أن الفرض لا يتميز عن غيره إلا بذكر أقسام العلوم ، والعلوم ، بالإضافة إلى الغرض الذي نحن بصدده ، تنقسم إلى : شرعية ، وغير شرعية .
وأعني بالشرعية ما استفيد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ، ولا يرشد العقل إليه ، مثل الحساب ، ولا التجربة ، مثل الطب ، ولا السماع ، مثل اللغة .
فالعلوم التي ليست بشرعية : تنقسم إلى ما هو محمود ، وإلى ما هو مذموم ، وإلى ما هو مباح ؛ فالمحمود : ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا ، كالطب والحساب .
وذلك ينقسم إلى : ما هو فرض كفاية ، وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة .
أما فرض الكفاية : فهو علمٌ لا يُستغنى عنه في قوام أمور الدنيا ، كالطب ؛ إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان . وكالحساب ؛ فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرهما . وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها : حَرِج أهل البلد ، وإذا قام بها واحد ، كفى وسقط الفرض عن الآخرين .
فلا يُتعجب من قولنا : إن الطب والحساب من فروض الكفايات ؛ فإن أصول الصناعات أيضا من فروض الكفايات ، كالفلاحة والحياكة والسياسة ، بل الحجامة والخياطة ؛ فإنه لو خلا البلد من الحجام تسارع الهلاك إليهم ، وحَرِجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك " .
انتهى من"إحياء علوم الدين" (1/16).
فتبين أن من علوم الدنيا ما هو محمود مطلوب ، وأن شأنها شأن الصناعات .
ومن تعلم شيئا من هذه العلوم الدنيوية المباحة ـ من حيث الأصل ـ فبإمكانه أن يحسن نيته فيه ، يطلب الخير له وللناس ، أو سد حاجة المحتاج ، أو إعانة الضعيف ، أو إغناء أمته وسد حاجتها ، أو غير ذلك من المقاصد المحمودة شرعًا ، وبقدر ما عنده من القصد الحسن ، والنية الصالحة يحمد على عمله ويؤجر عليه ، إن شاء الله ، وإن كان هذا العمل مباحًا من حيث الأصل ، ولو تجرد عن ذلك القصد الحسن : لم يأثم على ذلك ، ولم يكن ملومًا عليه، لكنه يكون في عمل المباح.
ينظر جواب السؤال رقم : (145767) ، (269819).
على أنه لا ينبغي للمرء ، في واقعه الذي يعيشه أن يبالغ في تقدير تخصصه الجامعي ، فإن ما ذكر من تقدم الأمم، وأمثال ذلك من الكلام : ليس يتعلق بتخصص الفرد الواحد في شيء من هذه العلوم ، بل ولا نبوغه ، ونبوغ أفراد معدودة ، بل يتعلق وينبني على مجموعة من العوامل المتكاتفة ، التي تخرج عادة عن طور الشخص الواحد وقدرته .
فينبغي للمرء أن ينظر فيما يمكنه هو من النفع ، وما يلائم ملكاته ، وقدراته ، وما ينتفع به في دينه ، بالقصد الأول ، قبل أن يعيش آمالا ، وطموحات حالمة ، لا يساعدها شيء من الواقع المحيط به من حوله .
والله أعلم .