الحمد لله.
أولا:
هذا الخبر رواه عبد الرزاق الصنعاني في "المصنف" (7 / 314) عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: " أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ غُرِّبَ فِي الْخَمْرِ إِلَى خَيْبَرَ، فَلَحِقَ بِهِرَقْلَ قَالَ: فَتَنَصَّرَ. فَقَالَ عُمَرُ: لَا أُغَرِّبُ مُسْلِمًا بَعْدَهُ أَبَدًا ".
وهذا إسناد ضعيف، لوجود انقطاع فيه، فابن جريج لم يدرك زمن عبد الله بن عمر.
ورواه بإسناد آخر (9 / 230) عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: " غَرَّبَ عُمَرُ ابْنَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ فِي الشَّرَابِ إِلَى خَيْبَرَ، فَلَحِقَ بِهِرْقَلَ فَتَنَصَّرَ، قَالَ عُمَرُ:
لَا أُغَرِّبُ بَعْدَهُ مُسْلِمًا أَبَدًا " ، ومن طريقه رواه النسائي في "السنن" (5676) تحت باب: "تَغْرِيبُ شَارِبِ الْخَمْرِ".
ورواية سعيد بن المسيب عن عمر: منقطعة، عند كثير من أهل العلم؛ أو عند جمهورهم.
قال الشيخ محمد بن آدم الاثيوبي:
" هذا الأثر رجاله ثقات، إلا أن فيه انقطاعا؛ لأن الجمهور على أن ابن المسيب لم يسمع من عمر رضي الله عنه ... " انتهى من "ذخيرة العقبى" (40 / 299).
والأثر: ضعفه الشيخ الألباني في "ضعيف سنن النسائي" (5692).
ويقوي جماعة من أهل العلم رواية سعيد بن المسيب عن عمر، وقد ولد في آخر خلافته ولما كبر اهتم بأقضيته فكان له اختصاص بقضاء عمر رضي الله عنه.
ففي "تهذيب التهذيب" (2 / 44) للحافظ ابن حجر:
" وقال أبو طالب، قلت لأحمد: سعيد بن المسيب؟ فقال: ومن مثل سعيد؟ ثقة من أهل الخير. فقلت له: سعيد عن عمر حجة؟ قال: هو عندنا حجة، قد رأى عمر وسمع منه، وإذا لم يقبل سعيد عن عمر فمن يقبل!
وقال الميموني وحنبل، عن أحمد: مرسلات سعيد صحاح، لا نرى أصح من مرسلاته...
وقال الربيع، عن الشافعي: إرسال ابن المسيب عندنا حسن.
وقال الليث، عن يحيى بن سعيد : كان ابن المسيب يُسمَّى راوية عمر، كان أحفظ الناس لأحكامه وأقضيته ...
وقال مالك : بلغني أن عبد الله بن عمر كان يرسل إلى ابن المسيب يسأله عن بعض شأن عمر وأمره .
وقال مالك : لم يدرك عمر، ولكن لما كبر أكب على المسألة عن شأنه وأمره " انتهى.
وعلى هذا القول فهذا الخبر أقل ما يقال فيه أن سنده حسن .
فعلى القول بضعف الأثر ، فلا حاجة للجواب عنه ، ولا إشكال حينئذ .
وأما على القول بثبوته ، فالجواب عنه سهل يسير .
فإن هذه الحادثة إنما كانت في شرب الخمر؛ ولم يرد في النصوص الشرعية الأمر بتغريب شارب الخمر ، وإنما ورد ذلك في حد الزاني البكر ، فيكون تغريب عمر لشارب الخمر، إنما هو تعزير فعله لمصلحة رآها .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" فإن التعزير لا يقدر بقدر معلوم، بل هو بحسب الجريمة في جنسها وصفتها وكبرها وصغرها، وعمر بن الخطاب قد تنوع تعزيره في الخمر؛ فتارة بحلق الرأس، وتارة بالنفي، وتارة بزيادة أربعين سوطا على الحد الذي ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وتارة بتحريق حانوت الخمار " انتهى من "إعلام الموقعين" (3 / 239 - 240).
والتعزير مبناه على اجتهاد الحاكم بما يرى فيه مصلحة شرعية.
جاء في "الموسوعة الفقهية الكويتية" (12 / 261):
" ذهب المالكية والشافعية والحنابلة، وهو الراجح عن الحنفية: أن التعزير عقوبة مفوضة إلى رأي الحاكم، وهذا التفويض في التعزير من أهم أوجه الخلاف بينه وبين الحد الذي هو عقوبة مقدرة من الشارع. وعلى الحاكم في تقدير عقوبة التعزير مراعاة حال الجريمة والمجرم " انتهى.
فيكون قول عمر رضي الله عنه: " لَا أُغَرِّبُ بَعْدَهُ مُسْلِمًا أَبَدًا " متعلقًا بالعقوبة التعزيرية في الخمر، فترك اجتهادا كان قد اجتهده، ورأى عدم التوسع في العقاب بالنفي، وليس هو متعلقًا بحد الزنا الثابت بالنص .
قال ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى؛ حيث قال:
" يحتمل أن يكون عمر قال ذلك في حد الخمر؛ لأنه مأخوذ اجتهادا.
وقد صحّ عنه أنه نفى في الزنى من طرق شتى " انتهى من "الاستذكار" (24 / 56).
وقال السندي رحمه الله تعالى:
" وهذا التغريب: من باب التعزير، وهو غير داخل في الحد، بخلاف التغريب في حد الزنا .
وقول عمر: ( لا أغرب بعده مسلما ) محمول على مثل هذا، وأما ما كان جزأ للحد، فلا بد منه " انتهى من "حاشية السندي على سنن النسائي" (8 / 319).
فالحاصل ؛ أنه على القول بثبوت هذه القضية فهي متعلقة بعقوبة تعزيرية اجتهادية ، والاجتهاد يتغير بحسب الأحوال والظروف ، فليس في هذا الخبر حجة على تعطيل الحدود .
ويزداد الأمر وضوحا بأن عمر رضي الله عنه لم يصرح في هذا الخبر أنه سيعطل الحد الخاص بشرب الخمر وهو الجلد .
فالحدود الشرعية لا يجوز أن تعطل إذا تحققت شروط تطبيقها، وانتفت الموانع ؛ لأن في هذا التعطيل تركًا لحكم الشرع ، وإعراضًا عنه .
وخشية حدوث ردة بسبب تطبيق الحدود؛ إن كان المقصود به بعض الأفراد كصاحب الجريمة نفسه، فهذه مفسدة قاصرة على هؤلاء الأفراد، لكن تعطيل الحدود يرجع بالضرر على جميع الأمة في دينها ودنياها؛ ومن المقطوع به أن دفع هذه المفسدة العامة مقدم.
وأما خشية ارتداد جماعات كثيرة بسبب تطبيق الحدود ؛ فهذا تخوف نظري ، لا حقيقة له في الواقع ؛ لأنه لا يكاد يوجد مسلم يخفى عليه أمر الشرع بتطبيق هذه الحدود ، ورغم ذلك قلوبهم مطمئنة بهذا الدين القويم -رغم كثرة الشبهات التي يثيرها الأعداء حولها واتساع نطاق نشرها وبثّها-، وما زالت الحدود تطبق من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا -وإن كان في هذا العصر في نطاق ضيق -؛ إلا أن هذا كله لم تحدث بسببه ردة جماعية.
وطالع للأهمية جواب السؤال رقم : (118686).
والله أعلم.