الحمد لله.
الراوي إذا قيل فيه ذلك، فإنه في الغالب يُعرف من أخذ عنه من كتابه ، ومن أخذ عنه من حفظه بعدة أمور :
الأول : أن ينصّ الراوي عنه أنه أخذه من كتابه .
مثاله :
أبو عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري .
وهو من الثقات ، إلا أن أبا حاتم قال فيه كما في "الجرح والتعديل" (9/41) :" كتبه صحيحة ، وإذا حدث من حفظه ، غلط كثيرا ، وهو صدوق ثقة ". انتهى
ولذا روى البخاري في "صحيحه" 333) ، فقال :" حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ مُدْرِكٍ ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ اسْمُهُ الوَضَّاحُ ، مِنْ كِتَابِهِ ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ .... ثم ساق الحديث ". انتهى
عبد الرزاق بن همام الصنعاني .
فقد أخرج مسلم في "صحيحه" (15) ، فقال :" حَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ كِتَابِهِ ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ ....ثم ساق الحديث ".
وأخرج أبو داود في "سننه" (3268 ) ، فقال :" حدَّثنا محمدُ بن يحيى بن فارسٍ ، قال حدَّثنا عبدُ الرزاقِ، - قال محمد ابن يحيى: كتبته من كتابه- أخبرنا معمرٌ ... ثم ساق الحديث ".
فهنا نصّ حجاج الشاعر ، ومحمد بن يحيى بن فارس: أنهما أخذا الحديث من كتاب عبد الرزاق ، وذلك لعلمهم أنه يهم إذا حدث من حفظه .
عبد الله بن نافع الصائغ .
قال فيه أبو حاتم كما في "الجرح والتعديل" (5/184) :" ليس بالحافظ ، هو لين تعرف حفظه وتنكر، وكتابه أصح ". انتهى.
وقد روى أبو داود في "سننه" (2042) ، فقال حدَّثنا أحمدُ بنُ صالح ، قرأتُ على عبدِ الله بنِ نافع ، قال: أخبرني ابنُ أبي ذئبٍ ، عن سعيدٍ المقبري ، عن أبي هُريرة، قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلم -:( لا تجعلوا بيوتَكُم قُبوراً ..) ثم ساق الحديث .
وهنا صرح أحمد بن صالح: أنه قرأ الحديث على عبد الله بن نافع أي أخذه من كتابه ، ولذا صحح الشيخ الألباني هذا الحديث في "السلسلة الصحيحة" (1780) ، وقال :" وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات رجال "الصحيح " ؛ على ضعف في حفظ عبد الله بن نافع- وهو الصائغ- ؛ لكنه هنا قد حدث من كتابه ". انتهى.
الثاني : أن ينصّ علماء الحديث على أن هذا الراوي حدث في موضع، أو بلد ما، من كتابه ، وفي غيرها من حفظه ، أو العكس .
مثاله :
حفص بن غياث .
وهو من الثقات ، إلا أنه ساء حفظه بعدما ولي القضاء ، فمن أخذ عنه من كتابه: فحديثه صحيح .
قال أبو زرعة الرازي كما في "الجرح والتعديل" (3/186) :" حفص بن غياث: ساء حفظه بعد ما استُقضي ، فمن كتب عنه من كتابه : فهو صالح ، وإلا فهو كذا ".
وقد نصّ ابن معين على أن جميع ما حدث به حفص، في بغداد والكوفة : إنما هو من حفظه، كما في "تاريخ بغداد" (8/191).
مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن مُسلم، أَبُو أُميَّة السجسْتانِي .
ترجم له ابن حبان في "الثقات" (15624) ، فقال :" وَكَانَ من الثِّقَات ، دخل مصر فَحَدثهُمْ من حفظه، من غير كتاب، بأَشْيَاء أَخطَأ فِيهَا ، فَلَا يُعجبنِي الِاحْتِجَاج بِخَبَرِهِ إِلَّا مَا حدث من كِتَابه ". انتهى.
فمثل هؤلاء: إذا كان الراوي عنهم من البلد التي حدث فيها من حفظه، كان حديثه حينئذ ضعيفا.
الثالث : أن ينصّ علماء الحديث، على أن هذا الراوي لم يأخذ عنه من كتابه ، إلا فلان وفلان مثلا ؛ فيقبل حديثه من طريقهم دون غيرهم .
مثاله :
شريك بن عبد الله النخعي .
قال ابن رجب في "شرح علل الترمذي" (2/759) :" قال يعقوب بن شيبة وغيره: كتبه صحاح ، وحفظه فيه اضطرب ، وقال محمد بن عمار الموصلي الحافظ: شريك كتبه صحاح ، فمن سمع منه من كتبه، فهو صحيح .
قال: ولم يسمع من شريك من كتابه : إلا إسحاق الأزرق ". انتهى
الرابع : أن ينصّ علماء العلل على أن هذا الحديث، لهذا الراوي : ليس في كتابه .
مثاله :
عبد الرزاق بن همام الصنعاني:
قال الذهبي في "تاريخ الإسلام" (5/374) :" قال الأثرم: سَمِعْتُ أبا عَبْد الله يُسأل عَنْ حديث النار جبار . فقال: هذا باطل ، ليس من هذا شيء.
ثم قَالَ: وَمَن يُحَدِّث بِهِ عَنْ عبد الرّزّاق؟ قلت: حدّثني أحمد بْن شَبَّوَيْه .
قَالَ: هَؤُلّاءِ سمعوا بعدما عَمي. كَانَ يُلقَّن ، فلُقِّنَه ، وليس هُوَ في كُتُبه. وقد أسندوا عَنْهُ أحاديث ليست في كُتُبه ، كَانَ يُلَقَّنَها بعدما عَمِي ". انتهى.
فأعلّ الإمام أحمد الحديث ، لأنه ليس في كتاب عبد الرزاق ، وإنما حدث به من حفظه .
وقال ابن رجب في "شرح علل الترمذي" (2/757) :" ومما أنكر على عبد الرزاق: حديثه عن معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة مرفوعاً: " الخيل معقود في نواصيها الخير".
أنكره أحمد ومحمد بن يحيى ، وقال: لم يكن في أصل عبد الرزاق ". انتهى
وعلى كُل ؛ فيجب على الباحث المحقق إذا وجد راويا قال فيه أهل العلم :" ثقة إذا حدث من كتابه ، يخطئ إذا حدث من حفظه " = أن يتوسع في ترجمته ، حتى يقف على الرواة الذين أخذوا عنه من كتابه .
فإن وُجد حديث من طريق راو من هؤلاء ، ولا يُعرف هل أُخذ عنه من كتابه أم من حفظه ، فيجب التوقف ، فإن تُوبع ، دل على أنه حدث به من كتابه ، وإن تفرد ، فيتوقف في قبول حديثه ذاك .
قال الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" (1/316) :" ثم إن الراوي عنه ، زهير بن محمد ، وإن كان من رجال " الصحيحين " ؛ ففي حفظه كلام كثير ، ضعفه من أجله جماعة . وقد عرفت آنفا قول البزار فيه : أنه لم يكن بالحافظ ، وقال أبو حاتم في " الجرح والتعديل " (1 / 2 / 590) : محله الصدق ، وفي حفظه سوء ، وكان حديثه بالشام أنكر من حديثه بالعراق ، لسوء حفظه ؛ فما حدث من كتبه فهو صالح ، وما حدث من حفظه ففيه أغاليط .
قلت ( أي الشيخ الألباني ): ومن أين لنا أن نعلم إذا كان حدث بهذا الحديث من كتابه ، أو من حفظه؟ !
ففي هذه الحالة : يتوقف عن قبول حديثه ". انتهى.
وختاما : نسأل الله لنا ولكم العلم النافع ، والعمل الصالح ، آمين .