الحمد لله.
الواجب في الوضوء هو غسل الرجلين، ولا يصح الاكتفاء بالمسح؛ إلا أن يكون مسحا على الخفين.
وذلك لما روى البخاري (163)، ومسلم (241) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ : "تَخَلَّفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنَّا فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا ، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقْنَا الْعَصْرَ ( أي أخرنا العصر ) فَجَعَلْنَا نَتَوَضَّأُ وَنَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا ، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ : وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا".
وروى مسلم (242) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا لَمْ يَغْسِلْ عَقِبَيْهِ ، فَقَالَ: وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ .
والعقب هو مؤخر القدم .
وهذا مجمع عليه، ولم يخالف فيه من يعتد به.
قال النووي رحمه الله في "المجموع" (1/ 417) : " أما حكم المسألة: فقد أجمع المسلمون على وجوب غسل الرجلين، ولم يخالف في ذلك من يُعتد به. كذا ذكره الشيخ أبو حامد وغيره.
وقالت الشيعة : الواجب مسحهما ، وحكى أصحابنا عن محمد بن جرير أنه مخير بين غسلهما ومسحهما ، وحكاه الخطابي عن الجبائي المعتزلي، وأوجب بعض أهل الظاهر الغسل والمسح جميعا".
وذَكَرَ من أدلة قول أهل السنة:
"الأحاديث الصحيحة المستفيضة في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم: أنه غسل رجليه، منها حديث عثمان وحديث علي وحديث ابن عباس وأبي هريرة وعبد الله بن زيد والربيع بنت معوذ وعمرو بن عبسة، وغيرها من الأحاديث المشهورة في الصحيحين وغيرهما. وقد جمعتها كلها في جامع السنة.
ومنها: ما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جماعة توضؤوا، وبقيت أعقابهم تلوح، لم يمسها الماء، فقال: ويل للأعقاب من النار رواه البخاري ومسلم من رواية
عبد الله بن عمرو بن العاص، ورويا نحوه من رواية أبي هريرة، وفي هذا تصريح بأن استيعاب الرجلين بالغسل واجب.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا توضأ، فترك موضع ظفر على قدميه، فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ارجع فأحسن وضوءك رواه مسلم.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ، كيف الطهور؟ فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثا وذكر الحديث إلى أن قال: ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا ثم قال : هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم .
هذا حديث صحيح رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة ، وهذا من أحسن الأدلة في المسألة.
وعن عمرو بن عبسة في حديثه الطويل المشهور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما منكم من أحد يقرب وضوءه، فيمضمض إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه مع الماء، إلى أن قال : ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء ، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء رواه مسلم بهذا اللفظ..." انتهى.
ثانيا:
أما ما احتج به من ذهب إلى القول بالمسح من آثار الصحابة، فيجاب عنه بأجوبة، منها رجوع هؤلاء الصحابة عنه، وثبوت القول عنهم بالغسل.
قال النووي رحمه الله: " واحتج القائلون بالمسح بقوله تعالى: (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) بالجر على إحدى القراءتين في السبع، فعطف الممسوح على الممسوح وجعل الأعضاء أربعة قسمين مغسولين ثم ممسوحين.
وعن أنس: أنه بلغه أن الحجاج خطب فقال: أمر الله تعالى بغسل الوجه واليدين وغسل الرجلين. فقال أنس: صدق الله وكذب الحجاج (فامسحوا برؤوسكم وأرجلِكم) قرأها جرا.
وعن ابن عباس: إنما هما غسلتان ومسحتان. وعنه: أمر الله بالمسح، ويأبى الناس إلا الغسل.
وعن رفاعة في حديث المسيء صلاته قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى فيغسل وجهه ويديه ويمسح رأسه ورجليه).
وعن علي رضي الله عنه أنه توضأ فأخذ حفنة من ماء، فرش على رجله اليمنى وفيها نعله، ثم فتلها بها ثم صنع باليسرى كذلك".
ثم ذكر الجواب عن ذلك فقال:
" وأما الجواب عن احتجاجهم بقوله تعالى: (وأرجلكم):
فقد قرئت بالنصب والجر ، فالنصب صريح في الغسل ، وتكون معطوفة على الوجه واليدين.
وأما الجر، فأجاب أصحابنا وغيرهم عنه بأجوبة:
أشهرها: أن الجر على مجاورة الرؤوس، مع أن الأرجل منصوبة، وهذا مشهور في لغة العرب وفيه أشعار كثيرة مشهورة، وفيه من منثور كلامهم كثير، من ذلك قولهم: هذا جحر ضبٍ خربٍ، بجر خرب على جوار ضب، وهو مرفوع صفة لجُحر.
ومنه في القرآن: (إني أخاف عليكم عذابَ يومٍ أليمٍ) فجر أليماً ، على جوار يومٍ ، وهو منصوب صفة لعذاب...
والجواب الثاني: أن قراءتي الجر والنصب تتعادلان ، والسنة بينت ورجحت الغسل؛ فتَعيَّن. الثالث: ذكره جماعات من أصحابنا، منهم الشيخ أبو حامد والدارمي والماوردي والقاضي أبو الطيب وآخرون، ونقله أبو حامد في باب المسح على الخف عن الأصحاب: أن الجر محمول على مسح الخف ، والنصب على الغسل إذا لم يكن خف.
الرابع: أنه لو ثبت أن المراد بالآية المسح، لحمل المسح على الغسل، جمعا بين الأدلة والقراءتين؛ لأن المسح يطلق على الغسل، كذا نقله جماعات من أئمة اللغة، منهم أبو زيد الأنصاري وابن قتيبة وآخرون. وقال أبو علي الفارسي: العرب تسمي خفيف الغسل مسحا . وروى البيهقي بإسناده عن الأعمش ، قال: كانوا يقرؤونها، وكانوا يغسلون.
وأما الجواب عن احتجاجهم بكلام أنس، فمن أوجه:
أشهرها عند أصحابنا: أن أنسا أنكر على الحجاج كون الآية تدل على تعيُّن الغسل، وكان يعتقد أن الغسل إنما عُلم وجوبه من بيان السنة، فهو موافق للحجاج في الغسل، مخالف له في الدليل.
والثاني ذكره البيهقي وغيره: أنه لم ينكر الغسل إنما أنكر القراءة، فكأنه لم يكن بلغه قراءة النصب، وهذا غير ممتنع.
ويؤيد هذا التأويل أن أنسا نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ما دل على الغسل، وكان أنس يغسل رجليه.
الثالث: لو تعذر تأويل كلام أنس، كان ما قدمناه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله، وفعل الصحابة وقولهم: مقدما عليه.
وأما قول ابن عباس، فجوابه من وجهين:
أحسنهما أنه ليس بصحيح ولا معروف عنه، وإن كان قد رواه ابن جرير بإسناده في كتابه اختلاف العلماء، إلا أن إسناده ضعيف؛ بل الصحيح الثابت عنه أنه كان يقرأ: (وأرجلكم) بالنصب، ويقول: عطف على المغسول، هكذا رواه عنه الأئمة الحفاظ الأعلام، منهم أبو عبيد القاسم بن سلام، وجماعات القراء، والبيهقي وغيره بأسانيدهم.
وثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس، أنه توضأ فغسل رجليه، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ.
والجواب الثاني: نحو الجواب السابق في كلام أنس.
وأما حديث رفاعة ، فهو على لفظ الآية ، فيقال فيه ما قيل في الآية .
وأما حديث علي فجوابه من أوجه:
أحسنها: أنه ضعيف، ضعفه البخاري وغيره من الحفاظ، فلا يحتج به لو لم يخالفه غيره؛ فكيف وهو مخالف للسنن المتظاهرة والدلائل الظاهرة.
الثاني: لو ثبت لكان الغسل مقدما عليه؛ لأنه ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثالث: جواب البيهقي والأصحاب: أنه محمول على أنه غسل الرجلين في النعلين، فقد ثبت عن علي من أوجه كثيرة: غسل الرجلين فوجب حمل الرواية المحتملة، على الروايات الصحيحة الصريحة" " انتهى من "المجموع" (1/ 419).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله :" وَقَدْ تَوَاتَرَتْ الأَخْبَار عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي صِفَة وُضُوئِهِ: أَنَّهُ غَسَلَ رِجْلَيْهِ، وَهُوَ الْمُبَيِّن لأَمْرِ اللَّه ، وَلَمْ يَثْبُت عَنْ أَحَد مِنْ الصَّحَابَة خِلَاف ذَلِكَ، إِلا عَنْ عَلِيّ وَابْن عَبَّاس وَأَنَس . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُمْ الرُّجُوع عَنْ ذَلِكَ . قَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي لَيْلَى : أَجْمَعَ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى غَسْل الْقَدَمَيْنِ , رَوَاهُ سَعِيد بْن مَنْصُور " انتهى من "فتح الباري" (1/320).
وبهذا يتبين أنه لا حجة صحيحة لمن قال بمسح الرجلين، واستقر الإجماع من أهل العلم على غسل الرجلين في الوضوء، إذ كانتا مكشوفتين؛ فيكون الخلاف في ذلك شاذا مخالفا للإجماع، ولا يجوز الإفتاء بهذا القول، وينكر على قائله.
والله أعلم.