السؤال: هل وقوف ودعاء النبي ﷺ بالصفا بعد طوافه يوم الفتح يؤخذ منه السنية لكل طائف أسبوعا؟ فلقد جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله (١٧٨٠): "وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَقْبَلَ إِلَى الْحَجَرِ، فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ، قَالَ: فَأَتَى عَلَى صَنَمٍ إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ، قَالَ: وَفِي يَدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْسٌ وَهُوَ آخِذٌ بِسِيَةِ الْقَوْسِ، فَلَمَّا أَتَى عَلَى الصَّنَمِ جَعَلَ يَطْعُنُهُ فِي عَيْنِهِ، وَيَقُولُ: (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ)الإسراء/٨١ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَتَى الصَّفَا، فَعَلَا عَلَيْهِ حَتَّى نَظَرَ إِلَى الْبَيْتِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَحْمَدُ اللهَ وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَ" .
الحمد لله.
أولا:
من الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة غير محرم؛ كما يدل على هذا حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَخَلَ عَامَ الفَتْحِ، وَعَلَى رَأْسِهِ المِغْفَرُ ) رواه البخاري (1846)، ومسلم (1357).
وحديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيِّ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ " رواه مسلم (1358).
والطواف في غير مناسك الحج والعمرة لا يشرع التطوع عقبه بالسعي بين الصفا والمروة؛ لأن هذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهذا مما اتفق عليه أهل العلم.
قال ابن بطال رضي الله عنه:
" وقد أجمع المسلمون على أن الطواف بينهما فى غير الحج والعمرة ليس مما يتقرب به العباد إلى الله ولا يتطوعون به، وأن الطواف بينهما لا قربة فيه إلا فى حج أو عمرة " انتهى من "شرح صحيح البخاري" (4 / 329).
ثانيا:
وأمّا حديث أَبِي هُرَيْرَةَ – عن فتح مكة -، قَالَ: " ... وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتِيبَةٍ، قَالَ: فَنَظَرَ فَرَآنِي، فَقَالَ: أَبُو هُرَيْرَةَ! قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ! فَقَالَ: لَا يَأْتِينِي إِلَّا أَنْصَارِيٌّ...
قَالَ: فَأَطَافُوا بِهِ، وَوَبَّشَتْ قُرَيْشٌ أَوْبَاشًا لَهَا، وَأَتْبَاعًا، فَقَالُوا: نُقَدِّمُ هَؤُلَاءِ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ شَيْءٌ كُنَّا مَعَهُمْ، وَإِنْ أُصِيبُوا أَعْطَيْنَا الَّذِي سُئِلْنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَرَوْنَ إِلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ، وَأَتْبَاعِهِمْ، ثُمَّ قَالَ بِيَدَيْهِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، ثُمَّ قَالَ: حَتَّى تُوَافُونِي بِالصَّفَا!
... قَالَ: وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَقْبَلَ إِلَى الْحَجَرِ، فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ، قَالَ: فَأَتَى عَلَى صَنَمٍ إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ، قَالَ: وَفِي يَدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْسٌ وَهُوَ آخِذٌ بِسِيَةِ الْقَوْسِ، فَلَمَّا أَتَى عَلَى الصَّنَمِ جَعَلَ يَطْعُنُهُ فِي عَيْنِهِ، وَيَقُولُ: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَتَى الصَّفَا، فَعَلَا عَلَيْهِ حَتَّى نَظَرَ إِلَى الْبَيْتِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَحْمَدُ اللهَ وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَ " رواه مسلم (1780).
فهذا الحديث لا يصلح الاستدلال به على سنية الوقوف على الصفا بعد طواف التطوع؛ لأن الحديث يشير إلى أن هذا الوقوف كان من تدبير النبي صلى الله عليه وسلم لحركة جيشه في الفتح؛ حيث قال لكتيبة الأنصار: (... حَتَّى تُوَافُونِي بِالصَّفَا! ).
والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار الصفا؛ لأنها أنسب مكان في مكة لمخاطبة الجموع الكثيرة؛ كما حصل منه صلى الله عليه وسلم في بداية بعثته.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: " لَمَّا نَزَلَتْ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ، صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي: يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ - لِبُطُونِ قُرَيْشٍ - حَتَّى اجْتَمَعُوا... الحديث. رواه البخاري (4770)، ومسلم (208).
وهذا هو الحاصل في يوم الفتح؛ حيث خاطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس وهو واقف على الصفا؛ كما في رواية لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ هذا في "مسند أبي يعلى" (11 / 524):
قَالَ: " فَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ الَّذِي يَلِي الصَّفَا، فَصَعِدَ الصَّفَا، فَخَطَبَ النَّاسَ، وَالْأَنْصَارُ أَسْفَلَ مِنْهُ ... " وصححه محقق "المسند".
والظاهر أيضا أن الحديث سيق مختصرا؛ وأن وقوفه صلى الله عليه وسلم على الصفا لم يعقب طوافه، بل كان بينهما زمن وأعمال؛ كما تشير رواية أبي داود في "السنن" (3024):
" أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ سَرَّحَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، وَأَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى الْخَيْلِ، وَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، اهْتِفْ بِالْأَنْصَارِ ، قَالَ: اسْلُكُوا هَذَا الطَّرِيقَ فَلَا يُشْرِفَنَّ لَكُمْ أَحَدٌ، إِلَّا أَنَمْتُمُوهُ فَنَادَى مُنَادٍ: لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ دَخَلَ دَارًا فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ ، وَعَمَدَ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ، فَدَخَلُوا الْكَعْبَةَ فَغَصَّ بِهِمْ، وَطَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ، ثُمَّ أَخَذَ بِجَنْبَتَيِ الْبَابِ، فَخَرَجُوا فَبَايَعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ " وصححه الشيخ الألباني في "صحيح سنن أبي داود".
وينضاف إلى كل ما سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ورد عنه أنه طاف مرة أخرى ولم يرد أنه وقف على الصفا.
كما روى ابْنُ إِسْحَاقَ؛ قال: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ بِمَكَّةَ وَاطْمَأَنَّ النَّاسُ، خَرَجَ حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ، فَطَافَ بِهِ سَبْعًا عَلَى رَاحِلَتِهِ، يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ فِي يَدِهِ، فَلَمَّا قَضَى طَوَافَهُ دَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ، فَأَخَذَ مِنْهُ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ، فَفُتِحَتْ لَهُ فَدَخَلَهَا، فَوَجَدَ فِيهَا حَمَامَةً مِنْ عِيدَانٍ، فَكَسَرَهَا بِيَدِهِ ثُمَّ طَرَحَهَا، ثُمَّ وَقَفَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ وَقَدِ اسْتَكَفَّ لَهُ النَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ "سيرة ابن هشام" (4 / 54).
وحسّن إسناده الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (8 / 18)، والشيخ الألباني في "صحيح سنن أبي داود" (6 / 130).
والله أعلم.