الحمد لله.
أولا :
يحرم على المسلم أن يرتكب الحيل لإسقاط حق أخيه المسلم ، وقد ألَّف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتابه "إقامة الدليل على إبطال التحليل" وذكر فيه إبطال الحيل من أربعة وعشرين وجها . انظر : "الفتاوى الكبرى" (6/5-192) .
ولهذا قال العلماء : إن الرجل إذا طلق امرأته طلاقا بائنا في مرض موته ، وهو متهم بحرمانها من الميراث : فإنها ترثه ، ما لم تتزوج أو ترتد .
قال البهوتي رحمه الله في "كشاف القناع" :
"( وَإِنْ كَانَ يُتَّهَمُ فِيهِ ) أَيْ الطَّلَاقِ ( بِقَصْدِ حِرْمَانِهَا الْمِيرَاثَ ، كَمَنْ طَلَّقَهَا ابْتِدَاءً ) ، بِلَا سُؤَالٍ مِنْهَا ، (فِي مَرَضِ مَوْتِهِ الْمَخُوفِ ...
( وَرِثَتْهُ ) ؛ لِأَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " وَرَّثَ بِنْتَ الْأَصْبَغِ الْكَلْبِيَّةِ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، وَكَانَ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ ، فَبَتَّهَا ، وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكَرْ ؛ فَكَانَ كَالْإِجْمَاعِ .
وَرَوَى عُرْوَةُ أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ : لَئِنْ مِتَّ لَأُورِثَنَّهَا مِنْكَ ، قَالَ : قَدْ عَلِمْتُ ذَلِكَ" انتهى .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
"قوله: وإن أبانها في مرض موته المخوف ، متهماً بقصد حرمانها : فإنه لا يرثها، وترثه هي؛ معاملة له بنقيض قصده؛ لأن الحيل لا تُبطل الحقوق.
وقوله: متهماً بقصد حرمانها، إذا لم يُتهم ، فإنها لا ترث منه من حين البينونة .
مثال الذي لم يتهم: امرأة لما رأت زوجها اشتد به المرض ـ مثلاً ـ طلبت الطلاق ، فطلقها ؛ فهذا غير متهم؛ لأنها هي التي طلبت، وإذا كانت هي التي طلبت ، فلا تهمة.
...
قوله: وترثه في العدة وبعدها أي: المطلقة في مرض موته المخوف متهماً بقصد حرمانها، فترثه البائن، في العدة وبعد العدة؛ لأنه متهم، وكل من حاول إبطال حق مسلم فإنه يعامل بنقيض قصده. وهو لا يرثها .
وبعد العدة ـ أيضاً ـ لأنه لا أثر للعدة هنا؛ إذ إن العدة عدة بائن لا تؤثر.
قوله: ما لم تتزوج؛ لأنها إذا تزوجت لا يمكن أن ترث زوجين، إذ لو قلنا: بأنها ترث بعد الزواج، لكان معناه أنها ترث من الزوج الأول ومن الزوج الثاني، وهذا لا نظير له في الشرع، ثم إنها إذا تزوجت فإنها بتزوجها قطعت العلاقة بينها وبين الزوج الأول نهائياً.
قوله: أو ترتد كذلك إن ارتدت ـ والعياذ بالله ـ فإنها لا ترث؛ لأنها أتت بمانع من موانع الإرث باختيارها" انتهى من "الشرح الممتع" (11/313).
ثانيا :
الأصل في الأحكام الشرعية أنه يستوي فيها الرجال والنساء ، إلا ما ثبت اختصاصه بأحدهما بدليل شرعي .
روى الترمذي (113) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إِنَّ النِّسَاءَ شَقَائِقُ الرِّجَالِ) وصححه الألباني في صحيح الجامع .
قال الخطابي رحمه الله تعالى:
" وقوله: (إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ).
فيه من الفقه إثبات القياس، وإلحاق حكم النظير بالنظير ، وأن الخطاب إذا ورد بلفظ الذكور كان خطابا للنساء إلا مواضع الخصوص التي قامت أدلة التخصيص فيها " انتهى من "معالم السنن" (1/79).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" فهو دليل على تساوي الشقيقين وتشابه القرينين ، وإعطاء أحدهما حكم الآخر " انتهى من "أعلام الموقعين" (2 / 343 - 344).
وبناء على هذا ، فإذا فعلت المرأة ما ينفسخ به النكاح في مرض موتها ، وكانت متهمة بحرمان زوجها من الميراث : فإنه يرثها ، ومثل ذلك: لو كان الزوج وكَّلَها في طلاق نفسها ، فطلقت نفسها .
وقد نص العلماء على ذلك .
قال البهوتي في "الروض المربع" – مع حاشية ابن قاسم عليه - (6/189):
"ويثبت الإِرث له دونها : إِن فعلت في مرض موتها المخوف ما يفسخ نكاحها ، ما دامت في العدة، إن اتُّهمت بقصد حرمانه .
قال ابن قاسم في حاشيته :
"قوله : (ما دامت في العدة) تبع التنقيح والمنتهى. وجزم في الإقناع بثبوته، ولو بعد العدة، كما لو كان هو المطلق، وجزم به في الفروع، وكذا أطلق الموفق في المقنع، وتبعه الشارح، وعلله بأنها أحد الزوجين، فر من ميراث الآخر، فأشبهت الرجل" انتهى .
وفي "مطالب أولي النهى" :
"(وَ) يَثْبُتُ الْإِرْثُ (لَهُ) ؛ أَيْ: الزَّوْجِ مِنْ زَوْجَتِهِ (فَقَطْ) ؛ أَيْ: دُونَهَا (إنْ فَعَلَتْ بِمَرَضِ مَوْتِهَا الْمَخُوفِ مَا يَفْسَخُ نِكَاحَهَا ، مَا دَامَتْ مُعْتَدَّةً) عَلَى الْأَشْهَرِ. قَالَهُ فِي " الْفُرُوعِ " وَهُوَ ظَاهِرُ صَنِيعِ " الْمُنْتَهَى "...
(أَوْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا) فَلَا يَسْقُطُ مِيرَاثُهُ مِنْهَا (عَلَى مَا) مَشَى عَلَيْهِ (فِي " الْإِقْنَاعِ ") ، كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الْمُطَلَّقُ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْفُرُوعِ " وَ" الْمُقْنِعِ " وَ" الشَّرْحِ " ؛ لِفِرَارِهَا مِنْ مِيرَاثِ زَوْجِهَا، فَعُوقِبَتْ بِضِدِّ قَصْدِهَا.
وَمَحِلُّ عَدَمِ سُقُوطِ مِيرَاثِ زَوْجِهَا بِفَسْخِهَا النِّكَاحَ : (إنْ اتُّهَمَتْ) فِي فِعْلِهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهَا مَا يَفْسَخُ النِّكَاحَ بِقَصْدِ حِرْمَانِهِ الْمِيرَاثَ (وَإِلَّا) تَكُنْ مُتَّهَمَةً بِقَصْدِ حِرْمَانِهِ الْإِرْثَ (سَقَطَ) مِيرَاثُهُ مِنْهَا لَوْ مَاتَتْ قَبْلَهُ (كَفَسْخِ مُعْتَقَةٍ تَحْتَ عَبْدٍ فَعَتَقَ، ثُمَّ مَاتَتْ) ؛ لِأَنَّ فَسْخَ النِّكَاحِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ لَا لِلْفِرَارِ" انتهى.
فتبين بهذا : أن الرجل لو وكل امرأته في طلاق نفسها ، فطلقت نفسها طلاقا بائنا في مرض موتها ، وكانت متهمة بحرمانه من الميراث : أن ميراثه منها لا يسقط ، ولو كان بعد العدة .
والله أعلم.