من الأمور المتقررة عندنا أن دعوة المظلوم على الظالم مستجابة، ولكن هل دعوة المظلوم للظالم مستجابة؟ فإني أرى أني إن دعوت له بالهداية والمغفرة مثلا وهداه الله، فسأستفيد أنا من ذلك وجميع المسلمين، فما حكم ذلك؟
الحمد لله.
ثبت أن دعوة المظلوم مستجابة. كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ رواه أبو داود (1536) والترمذي (1905)، وقال: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ".
لكن القرائن تدل على أن المقصد من هذا: وهو كفّ الناس عن التظالم، كما يشير إلى هذا حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى اليَمَنِ، فَقَالَ: اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ رواه البخاري (2448)، ومسلم (19).
وكحديث أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ رواه أحمد في "المسند" (13 / 410) والترمذي (3598)، وقال "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ" وصححه محققو المسند بشواهده، وحسّن الألباني فقرة المظلوم بشواهدها في "السلسلة الصحيحة" (2 / 527 – 528).
وهذا كله مما يدل على أن المقصود بدعاء المظلوم المستجاب هو الدعاء على الظالم، لا له.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
"أما دعوة المظلوم فمعناها إذا ظلمك أحد... فإذا دعوت الله عليه استجاب الله دعاءك، حتى ولو كان المظلوم كافرا، وظلمته، ثم دعا الله عليك، استجاب الله دعاءه، لا حبا للكافر، ولكن حبا للعدل، لأن الله حكم عدل، والمظلوم لابد أن ينصف له من الظالم، ولهذا لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن قال له: (اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).
فالمظلوم دعوته مستجابة إذا دعا على ظالمه بمثل ما ظلمه، أو أقل، أما إن تجاوز فإنه يكون معتديا فلا يستجاب له." انتهى من"شرح رياض الصالحين" (4 / 615 – 616).
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم (291659).
لكن لا شك أن دعوة المظلوم للظالم بالهداية، هي من الإحسان الذي يُرجى استجابته، لأن الدعاء عليه نوع انتصار، والدعاء له نوع عفو وإصلاح، وقد حث الله تعالى عليه.
قال الله تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ الشورى/40.
وكما أن ترك الدعاء عليه هو من الصبر المحمود، فإذا دعا له بالهداية والعفو، فقد زاد في الإحسان.
قال الله تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ النحل/126 - 128.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
"فشرع العدل وهو القصاص، وندب إلى الفضل وهو العفو، كقوله تعالى: (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ)؛ ولهذا قال هاهنا: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) أي: لا يضيع ذلك عند الله كما صح في الحديث: (وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا)." انتهى من "تفسير ابن كثير" (7 / 212).
وعن عَبْد اللَّهِ بن مسعود، قال: (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) رواه البخاري (3477)، ومسلم (1792).
والحاصل:
أن دعوة المظلوم لمن ظلمه، بالهداية، أو المغفرة، أو نحو ذلك: هي من كمال الإحسان المندوب إليه، ويرجى أن تكون في محل الإجابة والقبول من رب العالمين، لكن ليس لها من خصوصية الإجابة، ما لدعوة المظلوم المضطر على ظالمه؛ فليحذر الظالم دعوة الملظوم عليه؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب.
والله أعلم.