سؤالي خاص بفتوى قرأتها هنا بأن الجمهور، ومنهم الأئمة الأربعة، قالوا بمضي طلاق الحائض، وفي بادئ الأمر صدمتني الشبهة إذ إن الإجماع لا يخالف، فكيف يخالفه البعض الآن، وتريثت حتي فهمت إن هناك شروطا لحصول الإجماع، مثل أن لا يكون هناك خلاف مسبق لنفس المسألة، ولكن قرأت في موقعكم أن هناك شروطا ربما ليست بالكلية ضرورية، فكيف أستطيع تحديد إذا كان هذا إجماع أم لا، خاصة وقد رأيت مقالا خبيثا يستغل هذا، ويقول: إن الإجماع غير كافي لحسم المسألة، وبالطبع سيتأثر الكثير من الناس، حيث إن الأغلبية من المسلمين لا يعرفون دينهم، حتي إنهم الآن يحاربون دينهم أكثر من العدو الصريح؟
الحمد لله.
أولا:
إذا ثبت الإجماع في مسألة لم تجز مخالفته.
قال الإمام الشافعي : "وأمرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزوم جماعة المسلمين: مما يحتج به من أن إجماع المسلمين - إن شاء الله - لازم" انتهى من "الرسالة" ص403
وقال السرخسي رحمه الله :"الإجماع موجب للعلم قطعاً بمنزلة النص، فكما لا يجوز ترك العمل بالنص، باعتبار رأي يعترض له : لا يجوز مخالفة الإجماع برأي يعترض له، بعدما انعقد الإجماع بدليله" انتهى من " أصول السرخسي "(1/308) .
ثانيا:
ذهب جمهور الفقهاء إلى وقوع الطلاق في الحيض، وحكى الإجماع على ذلك جماعة من العلماء.
لكن التحقيق : أن هذا الإجماع لا يثبت؛ لوجود من خالف في المسألة من السلف، فقد ذهب إلى عدم وقوع الطلاق في الحيض: طاوس بن كيسان، وخلاس بن عمرو الهجري، وابن علية، وهو قول داود الظاهري، وابن حزم، وابن عقيل الحنبلي، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ورجحه من المتأخرين الصنعاني، والشوكاني، وأحمد شاكر، وابن باز، وابن عثيمين.
وقد أجاب هؤلاء عن دعوى الإجماع بأنه لم يثبت.
قال ابن حزم رحمه الله في "المحلى" (9/363): " فإن طلقها طلقة أو طلقتين في طهر وطئها فيه، أو في حيضتها: لم ينفذ ذلك الطلاق، وهي امرأته كما كانت، إلا أن يطلقها كذلك ثالثة، أو ثلاثة مجموعة، فيلزم".
وقال في (9/ 374) : " ثم اختلف الناس في الطلاق في الحيض، إن طلق الرجل كذلك، أو في طهر وطئها فيه، هل يلزم ذلك الطلاق أم لا؟ قال أبو محمد (ابن حزم) : ادعى بعض القائلين بهذا أنه إجماع؟
قال أبو محمد: وقد كذب مدعي ذلك، لأن الخلاف في ذلك موجود، وحتى لو لم يبلغنا لكان القاطع - على جميع أهل الإسلام - بما لا يقين عنده به، ولا بلغه عن جميعهم -: كاذبا على جميعهم... –
ثم ساق بإسناده عن بعض السلف القول بأن الطلاق في الحيض لا يقع -.
عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض، قال ابن عمر: لا يعتد لذلك.
وعن عبد الله بن طاوس عن أبيه: أنه كان لا يرى طلاقا ما خالف وجه الطلاق، ووجه العدة، وكان يقول: وجه الطلاق: أن يطلقها طاهرا عن غير جماع، وإذا استبان حملها.
وعن قتادة عن خلاس بن عمرو: أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض؟ قال: لا يعتد بها.
قال أبو محمد: والعجب من جرأة من ادعى الإجماع على خلاف هذا، وهو لا يجد فيما يوافق قوله في إمضاء الطلاق في الحيض، أو في طهر جامعها فيه: كلمة عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - غير رواية عن ابن عمر قد عارضها ما هو أحسن منها عن ابن عمر، وروايتين ساقطتين عن عثمان، وزيد بن ثابت" انتهى.
وقال ابن القيم رحمه الله في "شرحه لتهذيب سنن أبي داود" (6/172): " قالوا: وتوهُّم من توهَّم أنا خالفنا الإجماع في هذه المسألة: غلط؛ فإن الخلاف فيها أشهر من أن يُجحد، وأظهر من أن يستر.
وإذا كانت المسألة من موارد النزاع، فالواجب فيها امتثال ما أمر الله به ورسوله من رد ما تنازع فيه العلماء إلى الله ورسوله وتحكيم الله ورسوله، دون تحكيم أحد من الخلق. قال تعالى: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا.
فهذه بعض كلمات المانعين من الوقوع، ولو استوفينا الكلام في المسألة لاحتملت سفرا كبيرا" انتهى.
وقال في "زاد المعاد" (5/213): " وربما ادعى بعضهم الإجماع لعدم علمه بالنزاع.
قال المانعون من الوقوع: الكلام معكم في ثلاث مقامات بها يستبين الحق في المسألة:
المقام الأول: بطلان ما زعمتم من الإجماع، وأنه لا سبيل لكم إلى إثباته ألبتة، بل العلم بانتفائه معلوم.
المقام الثاني: أن فتوى الجمهور بالقول لا يدل على صحته، وقول الجمهور ليس بحجة.
المقام الثالث: أن الطلاق المحرم لا يدخل تحت نصوص الطلاق المطلقة التي رتب الشارع عليها أحكام الطلاق.
فإن ثبتت لنا هذه المقامات الثلاث، كنا أسعد بالصواب منكم في المسألة.
فنقول: أما المقام الأول، فقد تقدم من حكاية النزاع ما يُعلم معه بطلان دعوى الإجماع، كيف، ولو لم يُعلم ذلك، لم يكن لكم سبيل إلى إثبات الإجماع الذي تقوم به الحجة، وتنقطع معه المعذرة، وتحرم معه المخالفة، فإن الإجماع الذي يوجب ذلك هو الإجماع القطعي المعلوم" انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "الفتح" (9/351) تعليقا على ترجمة البخاري: "باب إذا طُلِّقت الحائض: تعتدُّ بذلك الطلاق"، قال: "كذا بت الحكم بالمسألة، وفيها خلاف قديم عن طاوس وخلاس بن عمرو وغيرهما: أنه لا يقع، ومن ثم نشأ سؤال من سأل ابن عمر عن ذلك" انتهى.
وإذا تبين أنه لا إجماع في المسألة فقد زال الإشكال، فالمحرم هو مخالفة الإجماع الثابت.
وينظر في أدلة الفريقين ومناقشتها: بحث " الفيض في تحقيق حكم الطلاق في الحيض" للأستاذ الدكتور سليمان العيسى
والله أعلم.