يوجد حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أباح الحمير الوحشية، وحرم الحمير الأهلية، فما المقصود بالوحشي؟ هل هو الحمار الوحشي المعروف الأبيض المخطط بالأسود؟ أم هو الحمار المتوحش بطبعه على الناس، ولا يألف أي أحد كائنًا من كان؟
الحمد لله.
أولاً:
ثبت في صحيح السنة النبوية جواز أكل لحم الحمار الوحشي ، كما جاء عن عَبدِ اللهِ بنِ أبي قَتادةَ السُّلَميِّ، عن أبيه رَضِيَ اللهُ عنه، قال: "كنتُ يومًا جالِسًا مع رِجالٍ مِن أصحابِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مَنزِلٍ ، في طريقِ مَكَّةَ ، ورَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نازِلٌ أمامَنا والقَومُ مُحرِمونَ ، وأنا غَيرُ مُحرِمٍ ، فأبصَروا حِمارًا وَحشِيًّا ، وأنا مَشغولٌ أخصِفُ نَعلي ، فلم يُؤذِنوني به ، وأحَبُّوا لو أنِّي أبصَرْتُه ، والتَفَتُّ فأبصَرْتُه فقُمتُ إلى الفَرَسِ ، فأسرَجْتُه ثمَّ رَكِبتُ ونَسيتُ السَّوطَ والرُّمحَ ، فقلتُ لهم : ناوِلوني السَّوطَ والرُّمحَ ، فقالوا : لا واللهِ ، لا نُعينُك عليه بشَيءٍ ، فغَضِبتُ فنَزَلتُ فأخَذْتُهما ، ثمَّ رَكِبتُ فشَدَدْتُ على الحِمارِ فعَقَرتُه ، ثمَّ جِئتُ به وقد مات ، فوقَعوا فيه يأكُلونَه ، ثمَّ إنَّهم شَكُّوا في أكلِهم إيَّاه وهم حُرُمٌ ، فرُحْنا وخَبَأتُ العَضُدَ معي ، فأدرَكْنا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، فسَألْناه عن ذلك ، فقال : معكم منه شَيءٌ ؟ فقلتُ : نعم ، فناوَلتُه العَضُدَ، فأكَلَها حتى نَفَّدَها ، وهو مُحرِمٌ" أخرجه البخاري (2570) واللفظ له، ومسلم (1196).
وفي رواية عن أَبي قَتَادَةَ رضي الله عنه أنه صاد حماراً وحشياً وأتى بقطعة منه للنبي صلى الله عليه وسلم فأكل منه ، وقال لأصحابه صلى الله عليه وسلم: هو حلال، فكلوه أخرجه البخاري (5492) ومسلم (1196) .
ففي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من لحم الحمار الوحشي ، وصرح بأنه حلال .
وجاء عن الصَّعبِ بنِ جَثَّامةَ رضي الله عنه: " أنَّه أهدى إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حِمارًا وَحشِيًّا وهو بالأبواءِ- أو بِوَدَّانَ- فرَدَّه عليه، فلمَّا رأى ما في وَجهِه قال: إنَّا لم نَرُدَّه عليك إلَّا أنَّا حُرُمٌ أخرجه البخاري (1825)، واللفظ له، ومسلم (1193).
ففي هذا الحديث أباح النبي صلى الله عليه وسلم أكله ، ولم يأكل منه لأنه صِيدَ لأجلِه ، والمُحرِمُ لا يأكُلُ ما صِيدَ لأجْلِه .
وهذا بخلاف الحمر الأهلية ، التي كانت مباحة في أول الأمر ، ثم حرمها النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر .
كما روى البخاري (5520) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ ، وَرَخَّصَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ".
وروى البخاري (5527)، ومسلم (1936) عن أبي ثَعْلَبَةَ رضي الله عنه قَالَ : "حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ".
قال ابن قدامة رحمه الله : " أكثر أهل العلم يرون تحريم الحمر الأهلية . قال أحمد : خمسة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كرهوها . قال ابن عبد البر : لا خلاف بين علماء المسلمين اليوم في تحريمها " انتهى من "المغني" (9/324).
ثانيًا:
الحمار الوحشي يشبه الحمار الأهلي في الخلقة ، إلا أن الحمار الوحشي يختلف عن الأهلي في الحجم واللون ، فالحمار الوحشي له أحجام مختلفة وألوان متنوعة .
قال الماوردي : " الْحِمَارَ الْوَحْشِيَّ وَالْحِمَارَ الْأَهْلِيَّ يَجْتَمِعَانِ فِي الِاسْمِ، وَيَشْتَبِهَانِ فِي الصُّورَةِ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي الْإِبَاحَةِ ، فَيَحِلُّ الوحشيُّ، وَيَحْرُمُ الْأَهْلِيُّ ؛ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَكَانِ " انتهى من "الحاوي" (15 /62).
وقد جاء في كلام المؤرخين والعلماء ما يدل على أن للحمار الوحشي ألوانًا متنوعة ، ومن ذلك :
ما ذكره النويري "نهاية الأرب" (9 /199) إذ قال : " ذكر ما قيل في الحُمُر الوحشية ... ويوجد منه ما تكون شِيَتُه معمَّدةً ببياض وسوادٍ في الطول من أعضائه المستطيلة ، ومستديرة فيما استدار منها بأصح قسمة ، ومنها صِنفٌ يسمى الأخدري وهو أطولها أعمارًا ، وقد وصفها أبو الفرج الببغاء من رسالةٍ ذكر فيها أتاناً معمّدةً ببياض وسواد ...).
وقال أثناء ذكره لحادثة قد وقعت : " وكان مما أحضروه حمار وحشي أبلق مخطط قدر البغل ، لم يصل إلى الديار المصرية مثله فيما سلف " (32 /253) .
وقال الأبشيهي حال وصفه لهدية بعض الخلفاء : " وحمارة وحشية عظيمة الخلقة في قدر البغل ، وآذانها شبه آذان البغل ، وهي مخططة تخطيطًا عاما لجميع خلقتها " انتهى من "المستطرف" (2 /121).
وقد ذكر الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله أن حمار الوحش كان موجودًا بكثرة في جزيرة العرب، وأنه يشبه الحمار الأهلي في الخلقة .
فقال رحمه الله : " حمار الوحش كان في جزيرة العرب بكثرة ، وهو في أشعارهم في ذكر القنص وكذلك في الأحاديث ، وخلقته تشبه خلقة الحمار الإنسي من كون له حافر وأذنان طويلتان وبقية صفاته ، وليس من الأهلي فتوحش ؛ بل هذا جنس مستقل ؛ فالوحش من الطيبات ، والأهلي من الخبائث " انتهى من "فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم" (12 /203).
والحاصل:
أن الحمار الوحشي يشبه الحمار الأهلي في الخلقة ؛ ويختلف عنه في الحجم واللون والبيئة التي يعيش فيها ، وأن الحمار المخطط هو نوع من أنواع الحمر الوحشية، وتوجد أنواع أخرى غيره.
ولمزيد من الفائدة والتحقيق حول المسألة : ينظر بحث "حمار الوحش في الشعر العربي القديم" للدكتور: عبد الرحمن بن ناصر السعيد.
والله أعلم.