هل المجاهرة بذنب تمنع من تكفير الطاعات للذنوب الأخرى؟

02-04-2023

السؤال 375866

هل المجاهرة بمعصية صغيرة كالتدخين تكون مانعا في أن تكفّر الصلوات الخمسة والصوم وغيرهما الذنوب؟

ملخص الجواب:

 مجاهرة الإنسان بذنب لا تمنع تكفير صغائره الأخرى بالصلوات الخمس وبصوم رمضان ونحوه من المكفرات.

الجواب

الحمد لله.

جاء في ذم المجاهرة بالذنب: ما روى البخاري (6069) ومسلم عن أبي هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ، عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ).

وجاء في فضل الاستتار أحاديث.

والمشهور في معنى المعافاة: عدم المؤاخذة والمعاقبة، أو كون الإنسان في عافية وسلامة.

قال المناوي رحمه الله: "(كل أمتي معافى): من عقوبة الله له على ذنبه؛ فإنه إذا ستره في الدنيا، ستره في الآخرة، وعفا عنه" انتهى من "التنوير شرح الجامع الصغير" (8/160).

وقال القسطلاني رحمه الله: "(كل أمتي) - المسلمون - (مُعافَى)، بضم الميم وفتح الفاء مقصورًا: اسم مفعول من العافية؛ أي يعفى عن ذنبهم، ولا يؤاخذون به" انتهى من "إرشاد الساري" (9/49).

وقال في "البحر المحيط الثجاج" (42/761): " (ومنها): بيان قبح المجاهرة بالمعاصي، وأن الله تعالى لا يغفر لأصحابها؛ لمبارزتهم له بها، واستخفافهم بشأنها" انتهى.

وقال الكوراني الشافعي: "فإن قلت: ما معنى: "كل أمتي معافى"؟ قلت: معناه كل فرد منهم في معرض السلامة والعفو، إلا المجاهر، فإنه مسرف بعيد عن العافية" انتهى من "الكوثر الجاري" (9/451).

وفسره الطيبي بأن المراد: "كل أمتي يتركون الغيبة، إلا المجاهرون" شرح المشكاة" (3119).

وعلى جميع هذه المعاني، فإن المجاهرة بذنب لا تمنع التوبة من ذنب آخر، ولا تمنع أن يكفَّر الذنبُ الآخر بالمكفرات، كالحج والعمرة والصوم والصلوات الخمس، ولم نقف على من قال إن من جاهر بذنب حرم من ذلك.

وهذه المسألة تشبه المسألة المشهورة: هل تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على ذنب آخر؟

قال النووي رحمه الله :"وَتَصِحّ التَّوْبَة مِنْ ذَنْب , وَإِنْ كَانَ مُصِرًّا عَلَى ذَنْب آخَر , وَإِذَا تَابَ تَوْبَة صَحِيحَة بِشُرُوطِهَا , ثُمَّ عَاوَدَ ذَلِكَ الذَّنْب , كُتِبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الذَّنْب الثَّانِي , وَلَمْ تَبْطُل تَوْبَته , هَذَا مَذْهَب أَهْل السُّنَّة فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ" انتهى من "شرح مسلم" (17/59).

وقال ابن القيم رحمه الله :"هل تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره ؟

فيه قولان لأهل العلم ، وهما روايتان عن الإمام أحمد رضي الله عنه .

والذي عندي في هذه المسألة : أن التوبة لا تصح من ذنب مع الإصرار على آخر من نوعه .

وأما التوبة من ذنب، مع مباشرة آخر لا تعلق له به، ولا هو من نوعه: فتصح ، كما إذا تاب من الربا ولم يتب من شرب الخمر مثلا، فإن توبته من الربا صحيحة.

وأما إذا تاب من ربا الفضل ولم يتب من ربا النسيئة وأصر عليه، أو بالعكس، أو تاب من تناول الحشيشة وأصر على شرب الخمر أو بالعكس: فهذا لا تصح توبته ، وهو كمن يتوب عن الزنا بامرأة وهو مصر على الزنا بغيرها غير تائب منها، أو تاب من شرب عصير العنب المسكر وهو مصر على شرب غيره من الأشربة المسكرة؛ فهذا في الحقيقة لم يتب من الذنب ، وإنما عدل عن نوع منه إلى نوع آخر، بخلاف من عدل عن معصية إلى معصية أخرى غيرها في الجنس " انتهى مختصرا من "مدارج السالكين" (1 /273-275).

ومثل ذلك أيضا: ما لو كان للإنسان صغائر وكبائر، فإن الصلوات الخمس والصوم يكفران الصغائر دون الكبائر، كما روى مسلم (233) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: (الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ).

واختلف أهل العلم في قوله في هذا الحديث: ( إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ ): هل المراد به: أن اجتناب الكبائر شرط في تكفير الصغائر؟ أو أن هذه الأعمال تكفر الصغائر، ولا تكفر الكبائر؟ على قولين معروفين لأهل العلم.

قال النووي رحمه الله: " وفي معنى هذه الأحاديث تأويلان:

أحدهما: يكفر الصغائر بشرط ألا يكون هناك كبائر؛ فإن كانت كبائر لم يكفر شيئا، لا الكبائر ولا الصغائر.

والثاني، وهو الأصح المختار: أنه يكفر كل الذنوب الصغائر. وتقديره: يغفر ذنوبه كلها إلا الكبائر.

قال القاضي عياض رحمه الله: هذا المذكور في الأحاديث من غفران الصغائر دون الكبائر: هو مذهب أهل السنة؛ وأن الكبائر إنما تكفرها التوبة، أو رحمة الله تعالي" انتهى من "شرح المهذب" (6/382).

وقال ابن رجب في "فتح الباري" (4/223): "وقد ذهب طائفة من العلماء، منهم: أبو بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا - إلى أن اجتناب الكبائر شرط لتكفير الصلوات الصغائر، فإن لم تجتنب الكبائر لم تكفر الصلوات شيئاً من الصغائر، وحكاه ابن عطية في " تفسيره" عن جمهور أهل السنة؛ لظاهر قوله: (ما اجتنبت الكبائر).

والصحيح الذي ذهب إليه كثير من العلماء، ورجحه ابن عطية، وحكاه عن الحُذَّاق: أن ذلك ليس بشرط، وأن الصلوات تكفر الصغائر مطلقاً إذا لم يصر عليها، فإنها بالإصرار عليها تصير من الكبائر." انتهى.

وقال الشيخ ابن عثيمين، رحمه الله: " واختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ في قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتنبت الكبائر) هل معني الحديث أن الصغائر تكفَّر إذا اجتنُبت الكبائر، وأنها لا تكفر إلا بشرطين هما: الصلوات الخمس، واجتناب الكبائر؟

أو أن معنى الحديث أنها كفارة لما بينهن إلا الكبائر فلا تكفرها، وعلى هذا فيكون لتكفير السيئات الصغائر شرط واحد، وهو إقامة هذه الصلوات الخمس، أو الجمعة إلى الجمعة، أو رمضان إلى رمضان، وهذا هو المتبادر ـ والله أعلم ـ أن المعنى: أن الصلوات الخمس تكفر ما بينها إلا الكبائر فلا تكفرها، وكذلك الجمعة إلى الجمعة، وكذلك رمضان إلى رمضان، وذلك لأن الكبائر لابد لها من توبة خاصة، فإذا لم يتب توبة خاصة فإن الأعمال الصالحة لا تكفرها، بل لابد من توبة خاصة" انتهى، من "شرح رياض الصالحين" (2/185).

والحاصل:

أن مجاهرة الإنسان بذنب كالدخان، لا تمنع تكفير صغائره الأخرى بالصلوات الخمس وبصوم رمضان ونحوه من المكفرات.

والله أعلم.

أحكام التوبة
عرض في موقع إسلام سؤال وجواب