الحمد لله.
أولا:
هذا الخبر بهذا السياق رواه عبد الرزاق في "المصنف" (1 / 383): عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: " لَوْ نَهَيْنَا عَنْ هَذَا الْعَصَبِ، فَإِنَّهُ يُصْبَغُ بِالْبَوْلِ.
فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: وَاللَّهِ مَا ذَلِكَ لِكَ.
قَالَ: مَا؟
قَالَ: إِنَّا لَبِسْنَاهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ، وَكُفِّنَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ عُمَرُ: صَدَقْتَ".
قال ابن الأثير رحمه الله تعالى:
" العَصْب: بُرودٌ يَمنيَّة يُعْصَب غَزْلها؛ أَيْ: يُجْمَع ويُشدّ، ثُمَّ يُصْبَغُ ويُنْسجُ، فَيَأْتِي مَوشِياً لِبقَاءِ مَا عُصِبَ مِنْهُ أبيضَ لَمْ يأخُذْه صِبغ " انتهى. "النهاية في غريب الحديث" (3/245).
وهذا الخبر سنده ضعيف؛ لأن:
" الحسن لم يسمع من عمر " كما علق عليه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (10/277).
وكذا لم يلق أبي بن كعب.
فالحاصل: أن سنده ضعيف لانقطاعه.
وعمرو الراوي عن الحسن لم يتبيّن لنا من هو، ففي الرواة عن الحسن وفي شيوخ ابن عيينة عدد ممن اسمهم عمرو، وفيهم الثقة وفيهم الضعيف.
وعبارة: "وَكُفِّنَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
هذه عبارة منكرة لا تصح؛ لأنها مخالفة للصحيح المتفق عليه من أن كفن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن من أثواب ملونة، بل كان من ثياب بيض.
روى البخاري (1264)، ومسلم (941) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُفِّنَ فِي ثَلاَثَةِ أَثْوَابٍ يَمَانِيَةٍ بِيضٍ، سَحُولِيَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ لَيْسَ فِيهِنَّ قَمِيصٌ وَلاَ عِمَامَةٌ ".
ورواه الترمذي (996)، ثم قال:
" حديث عائشة حديث حسن صحيح، وقد روي في كفن النبي صلى الله عليه وسلم روايات مختلفة، وحديث عائشة أصح الأحاديث التي رويت في كفن النبي صلى الله عليه وسلم، والعمل على حديث عائشة عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم " انتهى.
لكن أصل الخبر بدون الكفن، قد رواه الإمام أحمد في "المسند" (35/ 205-206)؛ قال: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنْ الْحَسَنِ:
" أَنَّ عُمَرَ أَرَادَ أَنْ يَنْهَى عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ، فَقَالَ لَهُ أُبَيٌّ: لَيْسَ ذَاكَ لَكَ، قَدْ تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَنْهَنَا عَنْ ذَلِكَ، فَأَضْرَبَ عَنْ ذَلِكَ عُمَرُ.
وَأَرَادَ أَنْ يَنْهَى عَنْ حُلَلِ الْحِبَرَةِ، لِأَنَّهَا تُصْبَغُ بِالْبَوْلِ، فَقَالَ لَهُ أُبَيٌّ: لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ قَدْ لَبِسَهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَبِسْنَاهُنَّ فِي عَهْدِهِ".
وقال محققو المسند:
" رجاله ثقات رجال الشيخين، لكن الحسن -وهو البصري- لم يلق عمر ولا أُبيّا، لكن قد صح نهي عمر عن متعة الحج كما سيأتي، وأما شطره الثاني فقد جاء من طرق عن عمر، وهي وإن كانت منقطعة، لكن بمجموعها تدلّ على أن لها أصلا عن عمر".
ومن هذه الأخبار التي يتقوى بها: ما رواه عبد الرزاق في "المصنف" (1/383) عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: هَمَّ عُمَرُ، أَنْ يَنْهَى عَنْ ثِيَابِ حِبَرَةَ؛ لِصَبْغِ الْبَوْلِ، ثُمَّ قَالَ: " كُنَّا نُهِينَا عَنِ التَّعَمُّقِ".
ثانيا:
الواجب في فهم هذا الخبر أن يكون وفق الأصل المتفق عليه بين أهل العلم، أنه يجب غسل الثياب النجسة، ولا تصح الصلاة فيها.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
"وأجمع العلماء على غسل النجاسات كلها من الثياب والبدن، وألا يصلى بشيء منها في الأرض ولا في الثياب.
وأما العذرات وأبوال ما لا يؤكل لحمه: فقليل ذلك وكثيره رجس نجس عند الجمهور من السلف، وعليه فقهاء الأمصار" انتهى من "الاستذكار" (3/205).
وبناء على هذا الأصل وعلى العبارة الواردة في الخبر: "كُنَّا نُهِينَا عَنِ التَّعَمُّقِ".
فالفهم الصحيح لهذا الخبر؛ هو أن عمر رضي الله عنه أراد أن ينهى عما قيل فيه : إنه يصبغ بالبول، لكنه غير متيقن من أنه كذلك. أو غير متيقن من أي بول هو، هل من بول الآدميين وما يحرم أكله، أو من بول ما يؤكل لحمه كبول الغنم؟ فأراد مزيد احتياط بترك لُبسها.
والظاهر من عبارة: "تُصْبَغُ بِالْبَوْلِ" أنهم كانوا يستعملون البول كمثبت للون وليس هو نفسه يكون لونا، كما قال الحطاب الرعيني رحمه الله تعالى:
" ومراده بما صبغ بالبول؛ ما جعل البول في صباغه، وليس البول نفسه صبغا، والله تعالى أعلم " انتهى من"مواهب الجليل" (1/250).
وعلى ذلك؛ فغاية ما يكون: أن يغسل ذلك الثوب، إذا قدر أنه تنجس بالبول عند صبغه ؛ فإذا غسل، زال أثر البول، وبقي اللون؛ فيكون الثوب طاهرا؛ فترك لبسه بالكليلة ، وعلى كل حال: تعمق ليس بمحمود؛ إنما يترك لبس ما تحققت نجاسته، إذا لم يُغسل.
قال الحافظ ابن حجر في تعليقه على ما رواه عبد الرزاق في "المصنف" (1/383): عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: "رَأَيْتُ الزُّهْرِيَّ يَلْبَسُ مَا صُبِغَ بِالْبَوْلِ".
قال رحمه الله تعالى:
" قوله: "بالبول": إن كان للجنس؛ فمحمول على أنه كان يغسله قبل لبسه، وإن كان للعهد؛ فالمراد بول ما يؤكل لحمه لأنه كان يقول بطهارته " انتهى من "فتح الباري" (1/474).
وقال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" وكل هذا يدل على أن ما صنعه الكفار من الثياب: فإنه تجوز الصلاة فيه من غير غسل، ما لم تحقق فيه نجاسة، ولا يكتفى في ذلك بمجرد القول فيه حتى يصح، وأنه لا ينبغي البحث عن ذلك والسؤال عنه.
وحكى ابن المنذر هذا القول عن مالك والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي، فلم يحك عن أحد فيه خلافا..." انتهى من"فتح الباري" (2 / 374).
ثالثا:
بناء على ما قررناه في معنى الأثر المذكور عن عمر هنا؛ يكون قول عمر رضي الله عنه ، مؤكدا لقاعدة: أن الأصل في الأشياء الطهارة؛ فلا يحكم بنجاستها إلا بدليل يدل على تنجسها، أما مجرد الشك فلا عبرة به.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" مع الشك: فالأصل في ذلك الطهارة، والاحتياط في ذلك وسواس؛ فإن الرجل إذا أصابه ما يجوز أن يكون طاهرا، ويجوز أن يكون نجسا لم يُستحب له التجنب على الصحيح، ولا الاحتياط؛ فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر هو وصاحب له بميزاب فقطر على صاحبه منه ماء. فقال صاحبه: يا صاحب الميزاب ماؤك طاهر أو نجس؟ فقال عمر: (يا صاحب الميزاب لا تخبره فإن هذا ليس عليه) " انتهى من "مجموع الفتاوى" (21/521).
والله أعلم.