١- دعاء" اللهم حاسبني حسابا يسيرا"، دعاء " اللهم أدخلني الجنة بغير حساب"، والدعاء الأول صح عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلب عكاشة ثابت معروف، ومعلوم أن المؤمن يدعو لنفسه بكلا الدعوتين معا اتباعا للسنة. السؤال: ما وجه الجمع بين الدعوتين وإحداهما تثبت نجاة بلا حساب، والأخرى تثبت نجاة بحساب يسير؟
الحمد لله.
أولا:
الشأن في التعارض والاجتهاد في التوفيق والجمع، إنما يكون بين النصوص الثابتة.
والدعاء بـ (اللهُمَّ حَاسِبْنِي حِسَابًا يَسِيرًا)، متكلم في صحتها وثبوتها.
رواها الإمام أحمد في "المسند" (40/260) من طريق مُحَمَّد بْن إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي بَعْضِ صَلَاتِهِ: ( اللهُمَّ حَاسِبْنِي حِسَابًا يَسِيرًا.
فَلَمَّا انْصَرَفَ، قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، مَا الْحِسَابُ الْيَسِيرُ؟
قَالَ: أَنْ يَنْظُرَ فِي كِتَابِهِ فَيَتَجَاوَزَ عَنْهُ، إِنَّهُ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَوْمَئِذٍ يَا عَائِشَةُ هَلَكَ، وَكُلُّ مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ، يُكَفِّرُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ عَنْهُ، حَتَّى الشَّوْكَةُ تَشُوكُهُ ).
قال محققو المسند:
" حديث صحيح دون قوله: سمعتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في صلاته: ( اللَّهمَّ حاسِبْني حسابا يسيراً )، فهذه الزيادة تفرَّد بها محمد بن اسحاق؛ وقد قال الذهبي في "الميزان": وما تفرد به فيه نكارة. قلنا: وقد اختُلف عليه فيه، كما سيرد ... " انتهى.
وقد روى الحاكم الحديث باللفظ السابق، ثم رواه أيضا (4/580) من طريق عائشة، رضي الله عنها أنها هي التي دعت بذلك: ( مَرَّ بِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا رَافِعَةٌ يَدَيَّ وَأَنَا أَقُولُ : اللَّهُمَّ حَاسِبْنِي حِسَابًا يَسِيرًا . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَدْرِينَ مَا ذَلِكَ الْحِسَابُ ؟ فَقُلْتُ : ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا فَقَالَ لِي : يَا عَائِشَةُ إِنَّهُ مَنْ حُوسِبَ خُصِمَ ذَلِكَ الْمَمَرُّ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تَعَالَى).
وهذا اختلاف ظاهر في لفظ الحديث.
وقد خالف عبد الواحد بن زياد ابن إسحاق في لفظه:
فرواه الإمام أحمد في مسنده (2551)، من طريق عَبْد الْوَاحِدِ بْن زِيَادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبَّادَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ، تَقُولُ: " سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحِسَابِ الْيَسِيرِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْحِسَابُ الْيَسِيرُ؟
فَقَالَ: (الرَّجُلُ تُعْرَضُ عَلَيْهِ ذُنُوبُهُ، ثُمَّ يُتَجَاوَزُ لَهُ عَنْهَا، إِنَّهُ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَكَ، وَلَا يُصِيبُ عَبْدًا شَوْكَةٌ، فَمَا فَوْقَهَا، إِلَّا قَاصَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ).
ويظهر أن هذا هو المحفوظ في الحديث، وهو الموافق لما ثبت في البخاري (6536)، ومسلم (2876) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَنْ حُوسِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، عُذِّبَ)، فَقُلْتُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا؟
فَقَالَ: (لَيْسَ ذَاكِ الْحِسَابُ، إِنَّمَا ذَاكِ الْعَرْضُ، مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِّبَ).
هكذا ثبت الحديث، من غير الدعاء بالحساب اليسير.
قال الحاكم، بعد روايته للحديث، باللفظ الأول: " هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ بِهَذَا اللَّفْظِ ، إِنَّمَا اتَّفَقَا عَلَى حَدِيثِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ " انتهى من "المستدرك" (1/57).
ثانيا:
روى البخاري (5705)، ومسلم (218) من حديث عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، قَالُوا: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ لَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، فَقَامَ عُكَّاشَةُ، فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: أَنْتَ مِنْهُمْ، قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ! ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ).
فإذا تقرر أن الحساب اليسير هو العرض، كما ثبت بيانه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد يقال: إن هذا العرض يشمل الذين يدخلون الجنة من غير حساب، ويكون المراد بالحساب المنفي عنهم: هو حساب المناقشة، والاستقصاء، وهو الحساب العسير، الذي يهلك صاحبه.
وقد يقال: إن المذكورين في حديث عكاشة: طبقة من أولياء هذه الأمة، ومقربيها، والذين يحاسبون حسابا يسيرا: طبقة أخرى، أدنى منهم منزلة، وفي كل خير، ولكل منزلة ورفعة مقدار عند رب العالمين.
وإلى هذا التفاوت في المنزلة، وردت الإشارة في حديث أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، مرفوعا: ( تُحشَرُ هذه الأُمَّةُ على ثَلاثةِ أصنافٍ: صِنْفٌ يَدخُلُونَ الجنَّةَ بغيرِ حِسابٍ، وصِنْفٌ يُحاسَبونَ حِسابًا يَسيرًا، وصِنْفٌ يَجيئونَ على ظُهورِهِم أمثالُ الجبالِ الرَّاسياتِ، فيَسألُ اللهُ عنْهُم -وهو أعلَمُ بهِمْ- فيقولُ: ما هؤلاء؟ فيَقولون: هؤلاءِ عبيدٌ مِن عِبادِكَ، فيقولُ: حُطُّوها عنهُم، واجعَلوها على اليهودِ والنَّصارَى، وأدخِلوهُم برَحمَتِي الجَنَّةَ ) رواه الحاكم (7854)، وحسنه الشيخ مصطفى العدوي.
قيل: وإلى هذا التفاوت، وردت الإشارة بقول الله تعالى : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ) فاطر/32-33.
قال الإيجي في "تفسيره" : " " (ثُمَّ أَوْرَثْنَا): حكمنا بتوريثه منك، أو عبر بالماضي عن المضارع لتحققه.
(الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا): آلك وأصحابك ومن بعدهم من أمتك.
(فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ): لتقصيرهم في العمل به، وهم يحبسون في طول المحشر حتى يصيبهم الهم الطويل، ثم يدخلون الجنة، وفي الحديث " هم الذين يقولون الْحَمْدُ لله الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ " ويدل على ما فسرنا الأحاديث الكثيرة.
(وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ): لأنَّهُم يعملون به في أغلب أحوالهم، وهم يحاسبون حسابًا يسيرًا.
(ومِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ): بالطاعات هم الأولياء والأبرار.
(بِإِذْنِ اللهِ): بأمره، وإرادته وهم يدخلون الجنة من غير حساب، أخر السابقين لقلتهم، وللترقي من الأدنى" . "جامع البيان" للإيجي (3/409).
وقال القضاعي: " الشرع قد ورد بأن قوما يدخلون الجنة من غير حساب مثل السبعين ألفا، ومثل قول الله تعالى للنبي - عليه السلام - في حديث الشفاعة: (أدخل من لا حساب عليه من أمتك من الباب الأيمن من أبواب الجنة).
وورد أيضا أن فيهم من يحاسب حسابا يسيرا، وفيهم من يناقش في الحساب، فهم درجات.
والمفهوم من الشرع: تقديم الأعلى فالأعلى من تلك الدرجات، فينبغي أن يدخل الجنة من لا حساب عليه، قبل من يحاسب حسابا يسيرا، ويحاسب من يحاسب يسيرا قبل من يناقش الحساب، ويحاسب من يناقش عليه قبل من يبالغ في حسابه، ويستقصى عليه دقيقُ أمره وجليلُه" انتهى من "تحرير المقال في موازنة الأعمال" للقضاعي (1/276).
والحاصل:
أن الأقرب عدم ثبوت الدعاء بالحساب اليسير من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بل ولا من دعاء عائشة رضي الله عنها بذلك. وليس في لفظ الصحيحين وغيرها ذكر الدعاء بذلك.
على أن لا إشكال في صحة الدعاء بذلك، لو دعا به المرء لنفسه، وهو طلب منزلة عالية رفيعة عند الله جل جلاله، ومن للعبد بها؛ فإنه إذا نظر إلى حال نفسه، وتقصيرها، كان ذلك أعلى ما يتمناه ويرجوه.
وإذا نظر إلى عفو الله وكرمه، وسعة ما عنده من الخير، لم يمنع أن يدعو بأن يكون مع الذين يدخلون الجنة بغير حساب.
قال الملا علي القاري، رحمه الله، في توجيه الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه دعا بذلك: " وهذا إما تعليم للأمة، وتنبيه لهم عن نوم الغفلة، وإما تلذذ بما يقع له من هذه النعمة، وإما خشية له؛ كما يقتضيه مقامه من معرفة رب العزة، وذهوله عن مرتبة النبوة ومنزلة العصمة." انتهى من "مرقاة المفاتيح" (8/3534).
والله أعلم.