في مسجدنا المؤذن هو غالبا من يتقدم للإمامة؛ لأن الإمام الراتب لا يصلي الصلوات كلها في المسجد، ومشكلة هذا المؤذن أنه يعاند إذا أخطأ في القراءة، ولا يلتفت لتصحيح المأمومين له، لكنه في هذه المرة تجاوز آية كاملة في الفاتحة (مالك يوم الدين) ورغم تصحيح المأمومين له، لم يلتفت، وأكمل قراءته؛ فقطعت الصلاة فورا، ونبهت المأمومين أن الصلاة بدون الفاتحة لا تصح، وصليت منفردا، فهل أخطأت، أم ما فعلته صحيح؟
الحمد لله.
أولا:
ينبغي للمصلي أن يستحضر أنه واقف بين يدي الله تعالى، فيقف خاشعا متضرعا متذللا، ويجتهد في إكمال صلاته بقدر استطاعته، حتى تكون صلاته مقبولة عند الله تعالى.
فإذا أخطأ الإمام وفتح عليه المأمومون، فعليه أن يعود إلى الصواب، ولا يصر على الخطأ، فإن إصراره على الخطأ –غالبا- يدل على تكبره واحتقاره للآخرين. وذلك من كبائر الذنوب التي يحرم الإنسان بسببها من دخول الجنة.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ. قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ رواه مسلم (91).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
"فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد فسّر الكبر في الحديث الصحيح بأنه بطر الحق وغمط الناس... وبطر الحق: جحده ودفعه، وغمط الناس احتقارهم وازدراؤهم" انتهى من "مجموع الفتاوى" (7 / 625).
ثانيا:
قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة ، لا تصح إلا بها ، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ رواه روى البخاري (756)، ومسلم (394).
فإذا ترك المصلي آية من الفاتحة –بل لو ترك حرفا واحدا- لم تصح صلاته.
قال النووي رحمه الله:
"تَجِبُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي الصلاة بجميع حروفها وتشديداتها ، وَهُنَّ أَرْبَعَ عَشْرَةَ تَشْدِيدَةً ، فِي الْبَسْمَلَةِ مِنْهُنَّ ثَلَاثٌ، فَلَوْ أَسْقَطَ حَرْفًا مِنْهَا ، أَوْ خَفَّفَ مُشَدَّدًا ، أَوْ أَبْدَلَ حَرْفًا بِحَرْفٍ مَعَ صِحَّةِ لِسَانِهِ لَمْ تَصِحَّ قِرَاءَتُهُ " انتهى.
وقال ابن قدامة رحمه الله في "الكافي" :
"ويأتي فيها بإحدى عشرة تشديدة [وهذا على القول بأن البسملة ليست من الفاتحة] فإن أخل بحرف منها، أو بشدة لم تصح، لأنه لم يقرأها كلها، والشدة أقيمت مقام حرف، وإن خفف الشددة صح ، لأنه كالنطق به مع العجلة" انتهى.
علق عليه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله قائلا:
"الفاتحة فيها إحدى عشرة تشديدة، والبسملة ليست منها، والحرف المشدد عن حرفين (ربِّ) أصلها ربب لكن أدغمت الباء بالباء، فالقارئ إذا ترك تشديدة، معناه أنه لم يقرأ الفاتحة كاملة" انتهى.
ثالثا:
إذا ترك الإمام آية من الفاتحة، ولم يعد إليها ليأتي بها، وأصر على ذلك، وجب على المأمومين مفارقته، وحينئذ: إما أن يتموا الصلاة فرادى ويبنوا على صلاتهم، ولا حاجة لقطع الصلاة وبدئها من جديد، وإما أن يقدموا أحدهم ليتم بهم الصلاة.
ولكن الغالب أن التصرف الثاني (تقديمهم لمن يتم بهم الصلاة جماعة) سوف يترتب عليه مفسدة ونزاع مع الإمام الأول، فالأحسن أن يتموا الصلاة فرادى.
أما إذا قطع المأموم الصلاة وبدأها من جديد، فنرجو ألا يكون في ذلك حرج، فقد ورد في بعض ألفاظ قصة معاذ بن جبل رضي الله عنه حين أطال الصلاة بقومه، ما يدل على أن رجلا قطع الصلاة وصلى منفردا. غير أن هذا اللفظ مختلف في صحته بين الأئمة.
قال النووي رحمه الله في "المجموع" (4/141):
قال المصنف رحمه الله : "وإن نوى المأموم مفارقة الإمام وأتم لنفسه، فإن كان لعذر: لم تبطل صلاته؛ لأن معاذا رضي الله عنه أطال القراءة، فانفرد عنه أعرابي. وذُكر ذلك للنبى صلي الله عليه وسلم فلم ينكر عليه ...".
(الشرح) هذا الحديث رواه البخاري ومسلم من رواية جابر ...
وأما قول المصنف: "فانفرد عنه أعرابي"، فليس بمقبول، بل الصواب: انصرف عنه أنصاري صاحب ناضخ ونخل. هكذا جاء مبينا في الصحيحين...
واتفق الشافعي والأصحاب على الاستدلال بهذا الحديث في هذه المسألة، وهى مفارقة الإمام والبناء علي ما صلى معه ...
وفي الاستدلال به إشكال، لأنه ليس فيه تصريح بأنه فارقه وبنى على صلاته، بل ثبت في صحيح مسلم في رواية: أنه استأنف الصلاة ، ولفظ روايته قال : (افتتح معاذ بسورة البقرة فانحرف رجل فسلم، ثم صلى وحده وانصرف)، وهذا لفظه بحروفه، وفيه تصريح بأنه لم يبن، بل قطع الصلاة، ثم استأنفها، فلا يحصل منه دلالة للمفارقة والبناء.
وقد أشار البيهقي إلى الجواب عن هذا الإشكال، فقال: لا أدرى، هل حفظت هذه الزيادة التي في مسلم ؟ لكثرة من روى هذا الحديث عن سفيان دون هذه الزيادة ، وإنما انفرد بها محمد بن عباد عن سفيان.
وهذا الجواب فيه نظر، لأنه قد تقرر وعُلم: أن المذهب الصحيح الذي عليه الجمهور من أصحاب الحديث والفقه والأصول قبول زيادة الثقة ، لكن يعتضد قول البيهقي بما قررناه في علوم الحديث أن اكثر المحدثين يجعلون مثل هذه الزيادة شاذا ضعيفا مردودا ، فالشاذ عندهم أن يروي ما لا يرويه سائر الثقات ، سواء خالفهم أم لا ، ومذهب الشافعي وطائفة من علماء الحجاز أن الشاذ ما يخالف الثقات ، أما ما لا يخالفهم فليس بشاذ ، بل يحتج به ، وهذا هو الصحيح ، وقول المحققين" انتهى .
فعلى هذا، لا حرج عليك في قطعك للصلاة حين أصر الإمام على تجاوز آية من الفاتحة.
رابعا:
ينبغي لإمام المسجد أن يحرص على حضور الصلوات كلها، حتى لا يتقدم للصلاة من لا يحسن الصلاة، ويعرض صلاة نفسه وصلاة المأمومين إلى البطلان، فإن عرض للإمام شغل فإنه ينبغي أن يحدد من يصلي بالناس في حال غيابه، وعليه أن يختار الأقرأ والأعلم بفقه الصلاة.
والله أعلم.