الحمد لله.
أولا :
من أكل لحما محرما فقد أدخل النجاسة إلى جوفه ، فيجب عليه أن يطهر فمه ويده من آثار النجاسة .
أما ما ابتلعه منها ، فإنه ينبغي أن يتقيأه ، -إن أمكن ذلك بلا ضرر عليه- ، وكان ذلك في المدة التي يغلب على الظن بقاء النجس بصفته لم يتغير ، فإن مرت عليه مدة يتغير فيها ، فلا يلزمه أن يتقيأ .
وقد اختلف العلماء في حكم تقيؤ النجاسة ، فمنهم من ذهب إلى وجوب ذلك ، ومنهم من ذهب إلى الاستحباب .
قال النووي رحمه الله في "المجموع" (3/146) : "إذا شرب خَمرًا، أَوْ غَيْرَهَا مِنْ النَّجَاسَاتِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْبُوَيْطِيِّ فِي بَابِ صَلَاةِ الْخَوْفِ: وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ مُحَرَّمٍ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَقَايَأَهُ، هَذَا نَصُّهُ فِي الْبُوَيْطِيِّ.
وَقَالَ فِي الْأُمِّ: وَلَوْ أُسِرَ رَجُلٌ، فَحُمِلَ عَلَى شُرْبِ مُحَرَّمٍ، أَوْ أَكْلِ مُحَرَّمٍ، وَخَافَ إنْ لَمْ يَفْعَلْهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَقَايَأَهُ، إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ.
وَهَذَانِ النَّصَّانِ ظَاهِرَانِ، أَوْ صَرِيحَانِ ، فِي وُجُوبِ الِاسْتِقَاءَةِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا.
وَبِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ، وَصَحَّحَهُ صَاحِبَا الشَّامِلِ، وَالْمُسْتَظْهَرَيْ.
وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَجِبُ، بَلْ يُسْتَحَبُّ. وَصَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ.
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَعْذُورِ فِي الشُّرْبِ، وَغَيْرِهِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الإمام الشافعي" انتهى .
وفي "حاشية الصاوي" – مالكي - (1/67) عن وجوب تقيؤ ما استقر من النجاسة بالبطن: "فَيَجِبُ عَلَيْهِ.. إلَخْ: هَذَا رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَوَّازِ.
وَقَالَ التُّونُسِيُّ: ذَلِكَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ لَغْوٌ، فَلَا يُؤْمَرُ بِتَقَايُؤٍ، وَلَا بِإِعَادَةٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.
إنْ قُلْت: حِينَئِذٍ صَارَتْ الْمَعِدَةُ نَجِسَةً بِمُجَرَّدِ الشُّرْبِ؟
قُلْت: إنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ تَطْهِيرِ نَفْسِ الْمَعِدَةِ، فَأَمَرْنَاهُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ التَّقَيُّؤِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إذَا قَدَرَ عَلَى الْبَعْضِ وَجَبَ؛ لِأَنَّ تَقْلِيلَ النَّجَاسَةِ وَاجِبٌ. اهـ .
وَمَحَلُّ وُجُوبِ التَّقَايُؤِ الْمَذْكُورِ: مُدَّةُ مَا يَرَى بَقَاءَ النَّجَاسَةِ فِي بَطْنِهِ، يَقِينًا، أَوْ ظَنًّا، لَا شَكًّا؛ فَإِذَا كَانَتْ خَمْرًا، وَجَبَتْ الْإِعَادَةُ مُدَّةَ مَا يُظَنُّ بَقَاؤُهَا خَمْرًا، فَإِنْ تَحَوَّلَتْ لِلْعَذِرَةِ، فَهِيَ بِمَثَابَتِهَا" انتهى .
ثانيا :
أما صحة الصلاة ، فذهب بعض العلماء (كالمالكية) إلى عدم صحتها إذا كان قادرا على تقيؤ النجاسة ، ولم تتغير في معدته .
والراجح أنها صحيحة ، لأن جوف الإنسان به نجاسة، كالعذرة والبول ، ولكن النجاسة في الباطن لا أثر لها في إبطال الصلاة ، لأنها في مكانها ، ولذلك يجوز للمصلي أن يحمل طفلا وهو يصلي ، مع أن في جوفه نجاسة .
وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله علي وسلم صلى وهو يحمل أمامة بنت ابنته زينب رضي الله عنهما .
قال النووي رحمه الله في "شرح صحيح مسلم" (2/305) :
"حَدِيث حَمْل أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا ، فِيهِ دَلِيل لِصِحَّةِ صَلَاة مَنْ حَمَلَ آدَمِيًّا أَوْ حَيَوَانًا طَاهِرًا مِنْ طَيْر وَشَاة وَغَيْرهمَا" انتهى .
وقال الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" : "ولو غسل شارب الخمر أو نجس آخر فمه وصلى، صحت صلاته، ووجب عليه أن يتقايأه، إن قدر عليه بلا ضرر يبيح التيمم" انتهى.
وجاء في "حاشية الجمل" : "لَوْ وَصَلَ جَوْفَهُ مُحَرَّمٌ نَجِسٌ أَوْ غَيْرُهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَتَقَايَأَهُ، وَإِنْ كَانَ وُصُولُهُ إلَيْهِ بِإِكْرَاهٍ، مَا لَمْ يَخَفْ مِنْهُ ضَرَرًا.
وَتَصِحُّ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ فِي مَعْدِنِ النَّجَاسَةِ [أي : في مكانها]" انتهى.
والله أعلم .