الحمد لله.
القول بأن المصلي جالسا لمرض يشير برأسه فقط عند الركوع والسجود: غير صحيح.
وتقييده بالرأس فقط لم يرد في حديث ثابت مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وغاية ما فيه ظواهر الأحاديث الواردة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للنافلة على ظهر راحلته في السفر، كما ورد في حديث عَامِر بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: ( رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الرَّاحِلَةِ يُسَبِّحُ، يُومِئُ بِرَأْسِهِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَ، وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ ) رواه البخاري (1097).
وما رواه البخاري (1105) عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَبِّحُ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ يُومِئُ بِرَأْسِهِ ). وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ.
وما رواه مسلم (540) عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: ( أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى بَعِيرِهِ فَكَلَّمْتُهُ، فَقَالَ لِي بِيَدِهِ هَكَذَا - وَأَوْمَأَ زُهَيْرٌ بِيَدِهِ - ثُمَّ كَلَّمْتُهُ فَقَالَ لِي هَكَذَا - فَأَوْمَأَ زُهَيْرٌ أَيْضًا بِيَدِهِ نَحْوَ الْأَرْضِ - وَأَنَا أَسْمَعُهُ يَقْرَأُ، يُومِئُ بِرَأْسِهِ … ).
والايماء هو الإشارة.
قال ابن الأثير رحمه الله تعالى:
" ( كان يصلي على حمار يومئ إيماء ) الإيماء: الإشارة بالأعضاء كالرأس واليد والعين والحاجب، وإنما يريد به هاهنا الرأس " انتهى. "النهاية في غريب الحديث" (1 / 81).
وتكون هذه الإشارة بالخفض للرأس، بحيث تكون الإشارة للسجود أخفض من الإشارة للركوع، كما في حديث جابر عند الترمذي (351)، وأبي داود (1227)، قَالَ: ( بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَاجَةٍ، فَجِئْتُهُ وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ المَشْرِقِ، وَالسُّجُودُ أَخْفَضُ مِنَ الرُّكُوعِ ).
وقال الترمذي: " حَدِيثُ جَابِرٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ".
لكن الاستدلال بها على عدم الإيماء بالظهر مرجوح لأمرين:
الأمر الأول:
أن هذه الأحاديث لم تنص على عدم الإيماء بالظهر، بل ألفاظها تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يأت بحقيقة الركوع والسجود، واكتفى بالإيماء برأسه، فيحتمل جدا أن يكون ذكر الرأس فيها لأنه هو الأساس، وسكت عن الرقبة والظهر لأنهما تابعان له في الانحناء؛ فلو فرض أنه أشار برأسه بدون أن يحرك ظهره أصلا، فهذا لا يكاد يميزه الناظر، خاصة مع حركة الراحلة والسير، فلا شك أنه صلى الله عليه وسلم أومأ إيماء بيّنا يدركه الناظر السائر ويميزه، بحيث يميز ركوعه من سجوده.
وتحديد هذا القدر بمقدار معيّن بحيث لا يتجاوز بمجرد الاستناد إلى ظواهر ألفاظ هذه الأحاديث هو محض تحكّم؛ لأن نصوصها لم تحدّده ولم تقيّده بمقدار.
الأمر الثاني:
أن هذه الأحاديث واردة في النافلة، وباب التيسير فيها أوسع من الفرائض، ولذا جاز الجلوس بدل القيام في النفل من غير ضرورة، أما في الفرض فلا يسقط شيء من الواجبات إلا بعذر من الأعذار، والعذر يقدر بقدره، فالمصلي مأمور بأن يتقي الله ما استطاع، والانحناء بالظهر هو شطر من حركة السجود والركوع، فإذا كان يستطيع أن يأتي بهذا الشطر أتى به؛ لأنه أقرب إلى الأصل.
وهذا الذي نص عليه جمع من السلف من الصحابة والتابعين والأئمة المتبعين.
فقد روى ابن أبي شيبة في "المصنف" (3/ 105)، بإسناد رواته ثقات، قال: حَدَّثنا ابنُ نُمَيْرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: دَخَلَ عَبْدُ اللهِ عَلَى أَخِيهِ فَرَآهُ يُصَلِّي عَلَى عُودٍ فَانْتَزَعَهُ وَرَمَى بِهِ، وَقَالَ: ( أَوْمِىءْ إيمَاءً حَيْثُ مَا يَبْلُغُ رَأْسُك ).
وروى أيضا في (3 / 105) بإسناد رواته ثقات، قال: حَدَّثنا أَزْهَرُ السَّمَّانُ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ - ابن سيرين -؛ فِي الْمَرِيضِ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى السُّجُودِ، قَالَ: " يُومِىءُ حَيْثُ مَا يَبْلُغُ رَأْسُهُ " انتهى.
وهو قول الإمام مالك كما في "المدونة"، حيث جاء فيها:
" قال – ابن القاسم -: وسألنا مالكا عن الرجل لا يستطيع أن يسجد لرمد بعينه، أو قرحة بجبهته، أو صداع يجده، وهو يقدر على أن يومئ جالسا ويركع ويقوم قائما، أيصلي جالسا إذا كان لا يقدر على السجود؟
قال: لا، ولكن ليقم فيقرأ ويركع ويقعد ويثني رجليه ويومئ إيماء لسجوده، ويفعل في صلاته كذلك حتى يفرغ.
فقلت لابن القاسم: كيف الإيماء بالرأس دون الظهر؟
قال: يومئ برأسه وبظهره.
قلت: وهو قول مالك؟
قال: نعم " انتهى. "المدونة" (1 / 77).
وإنما اختلف أصحابه في: هل يبالغ إلى الوسع أم لا؟
قال خليل بن إسحاق المالكي رحمه الله تعالى في شرحه لـ "مختصر ابن الحاجب":
" - قوله -:( فَإِنْ عَجَزَ عَنْ غَيْر الْقِيَامِ قَامَ وَأَوْمَأ، وَفِي إِيمَائِهِ وُسْعَهُ قَوْلانِ ).
قوله: ( فَإِنْ عَجَزَ عَنْ غَيْر الْقِيَامِ ) أي: لا يقدر على الركوع والسجود؛ فإنه يصلي قائما إيماء.
والأقرب في الإيماء أن يكون إلى الوسع؛ لأنه أقرب إلى الأصل، وهو ظاهر مختصر ابن شعبان.
وأخذ اللخمي والمازري من قوله في المدونة في المصلي قائما: يكون إيماؤه للسجود أخفض من إيمائه من الركوع؛ أنه ليس عليه نهاية طاقته.
ورده ابن بشير بأنه قال ذلك للفرق، لا لأنه لا يومئ وسعه... " انتهى. "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب" (1/ 352).
وهو نص الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، حيث قال:
" وإن قدر على السجود على صدغه ولم يقدر عليه على جبهته: طأطأ رأسه، ولو في شق، ثم سجد على صدغه، وكان أقرب ما يقدر عليه من السجود مستويا، أو على أي شقيه كان، لا يجزيه أن يطيق أن يقارب السجود بحال إلا قاربه " انتهى. "الأم" (2 / 177).
وهو الذي نص عليه أصحابه.
قال النووي رحمه الله تعالى:
" وإن قدر على زيادة على كمال الركوع وجب الاقتصار في الانحناء للركوع على قدر الكمال؛ ليتميز عن السجود، ويجب أن يقرب جبهته من الأرض للسجود أكثر ما يقدر عليه، قال الرافعي: حتى قال أصحابنا: لو قدر أن يسجد على صدغه أو عظم رأسه الذي فوق جبهته وعلم أنه إذا فعل ذلك كانت جبهته أقرب إلى الأرض لزمه ذلك. وهذا الذي نقله الرافعي حكاه الشيخ أبو حامد عن نص الشافعي، وقطع به هو والأصحاب، قال القاضي أبو الطيب: قال أصحابنا: لم يقصد الشافعي بذلك أن الصدغ محل للسجود، بل قصد أنه إذا سجد عليه كان أقرب إلى الأرض بجبهته من الإيماء " انتهى. "المجموع شرح المهذب" (4 / 312).
وقال ولي الدين العراقي الشافعي رحمه الله تعالى:
" قول "التنبيه": ( ويومئ بالركوع والسجود، ويكون سجوده أخفض من ركوعه ) لا يكفي مجرد كونه أخفض، بل لا بد من الانحناء غاية الممكن؛ لأنه أقرب إلى الواجب الأصلي، وقد صرح به "الحاوي". " انتهى. "تحرير الفتاوى" (1 / 241).
وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى:
" وإن عجز عن الركوع والسجود: أومأ بهما، كما يومئ بهما في حالة الخوف، ويجعل السجود أخفض من الركوع، وإن عجز عن السجود وحده ركع، وأومأ بالسجود، وإن لم يمكنه أن يحنى ظهره، حنى رقبته، وإن تقوس ظهره فصار كأنه واقع، فمتى أراد الركوع زاد في انحنائه قليلا، ويقرب وجهه إلى الأرض في السجود أكثر ما يمكنه " انتهى. "المغني" (2 / 575).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" كيف يركع؟ يركع بالإيماء، فيومئ أي: يخفض ظهره، قال العلماء: حتى يقابل ما وراء ركبتيه أدنى مقابلة وتتمتها الكمال بحيث يكون وجهه كله خارج حدود الركبتين...
فإن لم يستطع السجود لأثر في رأسه أو في عينه، أو ما أشبه ذلك فماذا يفعل؟
يومي بالسجود أيضا، ويجعل السجود أخفض من الركوع.
ولكن هل يجب عليه أن يسجد على بقية الأعضاء إذا عجز بالجبهة؟
قال بعض العلماء: إذا عجز بالجبهة سقط ما سواها، لأنها هي الأصل، فعلى هذا ما يجب عليه يسجد لا على ركبتيه ولا على أطراف القدمين ولا على الكفين ما دام عجزت الجبهة، مثل: أن يكون في الجبهة جروح لا يستطيع أن يسجد عليها، نقول: يومئ إيماء.
والصحيح أن العجز بالجبهة لا يسقط ما سواها؛ يجب عليه أن يسجد على ما سواها لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ).
فعلى هذا نقول: اسجد على الكفين والركبتين وأطراف القدمين، واقرُب من الأرض بقدر ما تستطيع " انتهى. "فتح ذي الجلال والإكرام" (2 / 316).
وهو الذي نص عليه ابن المنذر، حيث قال رحمه الله تعالى:
" على المريض أن يصلي على قدر طاقته، فإذا صلى قاعدا وهو عاجز عن القيام، وأمكنه الركوع والسجود، لم يجزه إلا أن يأتي بذلك على قدر ما يمكنه، فإن لم يقدر على السجود، أومأ برأسه يبلغ بالإيماء ما أمكنه " انتهى. "الأوسط" (4 / 382).
والله أعلم.