عندي إشكال، تعبت، ولم أجد له جوابًا بعد، وهو في حكم لبس الضيق للمرأة بين النساء أو المحارم. لماذا يفتي العلماء المعاصرون بحرمة لبس البنطال للمرأة بحجة تحجيم العورة؛ ثم في الوقت ذاته يبيحونه للرجال! أليس مابين السرة والركبة عورة؟ فلم أبيح لهم دون النساء؟! قيل: إن المرأة فتنة، والحق أنها فتنة للأجانب نعم، لكن بين النساء! هذا خلاف للعادة -أعني أن تفتتن امراة بمثلها، وإن سلمنا بهذا: فماذا عن الرجال؟! ألا يكون محل فتنة لغيره من الرجال؟ بل هو أشد على النساء غير المحارم في الأسواق وغيره. ولما قرأت في بعض كتب المتقدمين، وجدت حكم لباس الضيق على الكراهة وهو الأقرب لعدم الدليل. وإن قلتم دليلنا: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ونساء كاسيات عاريات)، فبالله عليكم أنصفوا، أيصدق على لبس البنطال مسمى العري؟! نعم، توجد بعض الألبسة الضيقة جدًا لدرجة الاشمئزاز، مثل اللقينز، لكن أنا أعني البنطال العادي لا الواسع ولا الضيق جدًا. أما عن أثر عمر رضي الله عنه: " لا تلبسوا نساءكم القباطي فإنه إن لم يشف إلا يصف"، فربما قصد منه ماكان عند الأجانب.
الحمد لله.
أولًا:
سبق بيان حكم لبس البنطال للنساء والأسس الشرعية التي يبنى عليها هذا الحكم في جواب السؤال رقم: (218388)، وينظر أيضًا للفائدة: (6569).
ثانيًا:
لا يجوز للرجل لبس بنطال يحدد عورته وسبق لنا بيان هذا في جواب السؤال رقم: (308406)، و(344471).
ثالثًا:
لا يحرم أن تلبس المرأة البنطال أمام النساء إلا إذا كان ضيقًا ضيقًا شديدًا، وقد بينا اختصاص التحريم بالضيق الشديد في جواب السؤال رقم: (6569).
رابعًا:
بناء أحكام لباس النساء لا يتعلق فقط بستر العورة، بل يتعلق أيضًا بمنع تجسيم هذه العورة تجسيمًا يكون من أسباب الفتنة، فقد حرمت الشريعة الخضوع بالقول: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا الأحزاب/32.
ولا يمكن أن تحرم الشريعة هذا المستوى من أسباب الفتنة، ثم تبيح لباسًا يصف طبيعة جسد المرأة، ولو كان ساترًا للعورة.
وطبيعة افتتان الرجل بالمرأة، تختلف عن طبيعة افتتان المرأة بالرجل، وهذا فرق حسي معلوم، ولذلك أباحت الشريعة للرجل كشف ساقيه وذراعيه ورأسه ونحره، فإنه ولو وجد احتمال حصول فتنة بهذا، فهي احتمالات لا يمكن أن تقارن باحتمالات الافتتان بالمرأة إن فعلت شيئًا من هذا، ولا يمكن لأجل هذه الاحتمالات القليلة، أن يضيق على الرجل في لباسه وحركته، مع ما قد أنيط به من مسؤوليات حياتية واجتماعية واسعة.
خامسًا:
ما ذكر من اقتصار بعض الفقهاء على القول بالكراهة في لباس المرأة للضيق، مقصودهم به لباس المرأة للضيق في الصلاة، فهو عندهم يكره ولا يحرم، ما دام ساترًا للعورة، ونحن نختار أن ستره للعورة يفيدنا صحة الصلاة، لكن الضيق هنا محرم كما بينا في جواب السؤال رقم: (32993).
لكن المقصود بيان أن الفقهاء المشار إليهم في السؤال لم يخطر ببالهم قط، أن هذا الضيق يلبس أمام غير المحارم، وإنما محل بحثهم هو لبسه في الصلاة.
قال الرمليُّ الشافعي في "النهاية" (2/8): "(وشرطُه) أي الساتر (ما منع إدراك لون البشرة)، وإن حكى حجمها، كسروال ضيق، لكنه مكروه للمرأة، ومثلها الخنثى فيما يظهر، وخلاف الأولى للرجل".
وقال العلامة ابن عابدين رحمه الله في "الحاشية" (1/410): "قوله: (ولا يضر التصاقُه) أي: بالألية مثلًا".
ويقول الإمام القرافي رحمه الله في "الذخيرة" (2/108): "فإنْ كانَ شفَّافًا: فهو كالعدم مع الانفراد، وإن كان يصف ولا يشف: كُرِهَ، وصحَّت الصلاة".
وهذه الأقوال جميعها ساقها هؤلاء الفقهاء عند الكلام عن ستر العورة في الصلاة، فالاستدلال بها على لبس الضيق أمام الأجانب هو تحريف لكلام هؤلاء الفقهاء.
سادساً:
نصوص الفقهاء في تحريم لبس المرأة للضيق أمام الأجانب كثيرة:
ومن ذلك قول العلامة ابن الملقن رحمه الله في "التوضيح شرح الصحيح" (9/51): "وقوله: (كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآخِرَةِ) يريد: كاسية بالثياب الواصفة لأجسامهن لغير أزواجهن ومن يحرم عليه النظر إلى ذلك منهن، وهن عاريات في الحقيقة، فربما عوقبت في الآخرة بالتعري الذي كانت إليه مائلة في الدنيا مباهية بحسنها، فعرف -صلى الله عليه وسلم- أن الصلاة تعصم من شر ذلك، وقد فسر مالك أنهن لابسات رقيق الثياب، وقد يحتمل -كما قَالَ ابن بطال- أن يريد -صلى الله عليه وسلم- بذلك النهي عن لبس رقيق الثياب، واصفًا كان أو غير واصف، خشية الفتنة".
وقال العلامة أبو العباس القرطبي في "المفهم" (5/449) "وقوله: (ونساء كاسيات عاريات) ... أنهن كاسيات بلباس الأثواب الرقاق الرفيعة التي لا تستر منهن "حجم عورة"، أو تبدي من محاسنها -مع وجود الأثواب الساترة عليها- ما لا يحل لها أن تبديه، كما تفعل البغايا المشتهرات بالفسق".
وقال العلامة الباجي رحمه الله في "المنتقى" (7/224): "ويحتمل عندي -والله أعلم- أن يكون ذلك لمعنيين؛ أحدهما الخفة فيشف عما تحته، فيدرك البصر ما تحته من المحاسن، ويحتمل أن يريد به الثوب الرقيق الصفيق الذي لا يستر الأعضاء، بل يبدو "حجمها".
ثم قال: "قال مالك رحمه الله : بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى النساء أن يلبسن القباطي، قال [أي: عمر رضي الله عنه]: (وإن كانت لا تشف فإنها تصف)، قال مالك: (معنى تصف أي: تلصق بالجلد)، وسئل مالك عن الوصائف يلبسن الأقبية فقال: (ما يعجبني ذلك، وإذا شدتها عليها ظهر عجزها)، ومعنى ذلك أنه لضيقه يصف أعضاءها، عجُزها وغيرها، مما شرع ستره، والله أعلم وأحكم".
وقال القاضي عياض رحمه الله في "مطالع الأنوار على صحاح الآثار" (6/68) في شرح أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه المشار إليه في السؤال في نهيه عن القباطي وقوله في وصفها: (فإنه إلا يشف فإنه يصف): "قوله: (إلا يَشِفَّ فَإِنَّهُ يَصِفُ) بفتح الياء وشد الفاء وكسر الشين، ومعناه: إن لم يُبْدِ ما وراءه من الجسم ويظهره لصفاقته مع رقته، فإنه يصف ما وراءه للصوقه به، حتي يبدو حجم الجسم وتتبين الأعضاء، والشف: الثوب الرقيق المهلهل النسج الذي يبدو معه لون ما وراءه، وكذلك (كل جسم يظهر من أمامه ما وراءه) فهو شفاف كالزجاج وغيره".
وقال ابن الحاجب رحمه الله في "جامع الأمهات" (ص/563): "ويحرم على النساءِ لباسُ ما يصفُ أو يشفُّ".
وقال العلامة الكاساني رحمه الله: "وإن كان ثوبُها رقيقًا يصف ما تحته ويشف، أو كان صفيقًا لكنه يلتزق ببدنها حتى يستبين له جسدها: فلا يحلُّ له النظرُ؛ لأنه إذا استبانَ جسدَهَا كانت كاسية صورة عارية حقيقة، وقد قال النبي: (لعن الله الكاسيات العاريات)" انتهى، من "بدائع الصنائع" (5/123).
وقال العلامة ابن عابدين رحمه الله في "الحاشية" (1/410): "هل يحرم النظر إلى ذلك المتشكل مطلقًا (أي الجسد الذي يصف الثوب الضيق شكله) أو حيث وجدت الشهوة؟
قلت: ... الذي يظهر من كلامهم هناك هو الأول".
فتبين من هذا كله أن المتقرر عند الفقهاء حرمة لبس المرأة للثوب الضيق الذي يصف حجم عورتها، لا خلاف بينهم في هذا.
والله أعلم.