الحمد لله.
أولاً:
إذا اشترطت المرأة لنفسها شرطاً، أو اشترط لها الولي شرطا، وأقرته؛ فمحل خلاف بين أهل العلم، هل يجب الوفاء به أم يستحب؟
قال الخطابي: "الشروط في النكاح مختلفة، فمنها ما يجب الوفاء به اتفاقا، وهو ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وعليه حمل بعضهم هذا الحديث - أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ: مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوج -، ومنها ما لا يوفى به اتفاقا، كسؤال طلاق أختها، ومنها ما اختُلف فيه؛ كاشتراط أن لا يتزوج عليها، أو لا ينقلها من منزلها إلى منزله" انتهى من "فتح الباري لابن حجر" (9/ 217).
وقال المُظْهِري رحمه الله: "أن يَشرُطَ أهلُ الزوجة على الزوج أن لا يُخرجَها من بلدِها إلى بلدٍ آخرَ، ومن بيتِ أقاربها إلى بيتِ أجنبيًّ، أو مِن محلتِها إلى محلته، أو أن لا يَنكحَ عليها زوجةً أخرى، وما أشبه ذلك، فالوفاءُ بهذه الشروطِ وأشباهِها غيرُ واجبٍ عند الشافعي وأبي حنيفة ومالك، وواجبٌ عند ابن مسعود، وبه قال أحمد" انتهى من "المفاتيح في شرح المصابيح" (4/ 36).
والأدلة تؤيد القول بوجوب الوفاء بالشروط المتفق عليها في عقد النكاح، التي لا تخالف الشرع ولا مقتضى العقد. لقوله تعالى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ المائدة/1، وهذا يتضمن العقد وما لحق به من شروط.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: (أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ: مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوج) رواه البخاري (2721).
قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله: "عن عبد الرحمن بن غنم قال كنت مع عمر حيث تمس ركبتي ركبته فجاءه رجل فقال يا أمير لمؤمنين تزوجت هذه، وشرطت لها دارها وإنَّ أجمع لأمري أو لشأني أن أنتقل إلى أرض كذا وكذا؟ فقال: لها شرطها. فقال الرجل هلك الرجال؛ إذ لا تشاء امرأة أن تطلق زوجها إلا طلقت. فقال عمر: (المؤمنون على شروطهم، عند مقاطع حقوقهم)". انتهى من "فتح الباري لابن حجر" (9/217).
قال ابن القيم رحمه الله: " أحق الشروط أن يوفى به -أي الشروط في النكاح -وهو مقتضى الشرع والعقل والقياس الصحيح، فإن المرأة لم ترض ببذل بضعها للزوج إلا على هذا الشرط، ولو لم يجب الوفاء به، لم يكن العقد عن تراض، وكان إلزاما لها بما لم تلتزمه، وبما لم يلزمها الله تعالى ورسوله به" انتهى من "إعلام الموقعين" (3/266).
ثانياً:
الأصل أن الشروط في عقد النكاح تكون لمصلحة الزوجة، إذ إنها محل العقد، واشتراط الأب شيئاً لمصلحة نفسه محل خلاف بين أهل العلم، وقد ذهب الجمهور إلى أنه غير معتبر.
فعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما امرأة نكحت على صداق أو حباء أو عدة قبل عصمة النكاح، فهو لها، وما كان بعد عصمة النكاح، فهو لمن أعطيه، وأحق ما يكرم عليه الرجل ابنته أو أخته) أحمد في المسند (6709) وحسنه شعيب الأرناؤوط.
وقد روي ابن أبي شيبة في مصنفه: "عن الأوزاعي أن رجلًا زوج ابنته على ألف دينار، وشرط لنفسه ألف دينار، فقضى عمر بن عبد العزيز للمرأة (بألفين) دون الأب". انتهى من "المصنف" (17263).
وروى عن عكرمة قال في جوابه عن اشتراط الولي لنفسه شيئاً: "إن كان هو الذي يُنكَح فهو له" استنكاراً للسؤال. "المصنف" (17264).
قال الشافعي رحمه الله: "وإذا عقد الرجل النكاح على البكر أو الثيب التي تلي مال نفسها أو لا تليه، فإذنها في النكاح غير إذنها في الصداق؛ فلو نكحها بألف على أن لأبيها ألفا، فالنكاح ثابت، ولها مهر مثلها، كان أقل من ألف أو أكثر من ألفين؛ من قِبَلِ أنه نكاح جائز، عُقد فيه صداقٌ فاسد، وجب في أصل العقد ليس من العقد ولا يجب بالعقد، ما لم يجعله الزوج للمرأة فيكون صداقا لها، فإذا أعطاه الأبَ، فإنما أعطاه بحق غيره؛ فلا يكون له أن يأخذ بحق غيره" انتهى من "الأم" (5/78).
قال الباجي رحمه الله في بيان ما كتبه عمر بن عبد العزيز إلى الولاة في خلافته: "كل ما اشترط المنكِحُ، من كان، أبا أو غيره، من حِباء أو كرامة: فهو للمرأة إن ابتغته": يقتضي أن ما اشتُرط في عقد النكاح من عطاء يشترطه الولي لنفسه أو لغيره؛ فإن ذلك كله للزوجة.
ووجهه: أنه عقد معاوضة؛ فوجب أن يكون جميع عوضه لمن عِوَضُه من جهته، كالبيع والإجارة" انتهى من "المنتقى شرح الموطأ" (3/283).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "مسألة يجب على أولياء الأمور أن ينتبهوا لها، وأن يعلموا أنه لا يحل لهم أن يشترطوا لأنفسهم شيئاً من المهر، لا الأب ولا الأخ ولا العم، ولا غيرهم من أولياء، ولو اشترطوا شيئاً؛ فإنه يكون للمرأة للمتزوجة؛ لأنه عوض بضعها والاستمتاع بها، فلا يكون لأحد سلطة عليه" انتهى من "فتاوى نور على الدرب للعثيمين" (19/ 2 بترقيم الشاملة).
ثالثاً:
على القول بوجوب الوفاء بالشروط التي تشترطها المرأة لنفسها، أو يشترطها وليها لها، أو لحظ نفسه؛ فإن للزوجة إسقاط ذلك كله؛ إذا رضيت بإسقاطه.
قال الحطاب: "قول مالك في البكر يشترط لها زوجها أن لا يخرجها إلا برضاها، فرضيت بترك شرطها؛ أن ذلك جائز، وإن كره الأب" انتهى من "مواهب الجليل في شرح مختصر خليل" (3/ 455).
وقال ابن عرفة: "قول مالك: لها ترك شرطها أن لا يخرجها إلا برضاها، ولو كره أبوها" انتهى من "المختصر الفقهي" (3/ 248).
وقال البهوتي: "ولا يسقط ملكها الفسخ لعدم وفائه بما اشترطته، إلا بما يدل على رضا منها، من قول أو تمكين، كأن مكنته من نفسها مع العلم بفعله ما اشترطت أن لا يفعله" انتهى من "شرح منتهى الإرادات" (2/ 665).
وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: "عن الزوج الذي اشترط عليه ولي زوجته بقاءها في بلدها، وعدم انتقالها مع زوجها إلى بلد آخر إلى آخره".
فأجاب: "اشتراط الزوجة، أو وليها، على الزوج: أن لا يخرجها من دارها، أو من بلدها: شرط صحيح لازم، يتعين العمل به، لما روى عقبة بن عامر مرفوعاً: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج) رواه الشيخان.
وروى الأثرم بإسناده "أن رجلاً تزوج امرأة وشرط لها دارها، فأراد نقلها، فخاصموه إلى عمر رضي الله عنه، فقال: لها شرطها".
لكن إن رضيت الزوجة بالانتقال معه؛ فالحق لها، وإذا أسقطته سقط" انتهى من "فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ" (10/146).
وبناء على ما تقدم:
فإن رضا زوجتك، وموافقتها على السفر معك: يسقط الشرط الذي اشترطه وليها من عدم السفر بها.
ويبقى مسألة التلطف معه، منك ومن ابنته، ببيان أن ذلك فيه مصلحتكم وأن التواصل سيظل قائما.
والله أعلم.