كيف يمكن التوفيق بين انسحاب خالد بن الوليد بالجيش من غزوة مؤتة ونهي الله تعالى المؤمنين عن تولية الكافرين الأدبار؟
الحمد لله.
أولا:
لم يثبت أن الصحابة رضوان الله عليهم فروا منهزمين إلى المدينة في غزوة مؤتة، وكل ما ذكر عن الهزيمة فليس له سند صحيح، وكيف يصح والنبي صلى الله عليه وسلم قد نص أنه قد حصل للصحابة فتح بقيادة خالد رضي الله عنه؟!
روى البخاري (4262) عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَعَى زَيْدًا وَجَعْفَرًا وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ، فَقَالَ: أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ. وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ: حَتَّى أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ، حَتَّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ .
وإنما الخلاف حاصل في توجيه معنى هذا الفتح.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" واختلف أهل النّقل في المراد بقوله: ( حَتَّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ )، هل كان هناك قتال فيه هزيمة للمشركين؟
أو المراد بالفتح انحيازه بالمسلمين حتّى رجعوا سالمين؟ " انتهى. "فتح الباري" (7 / 513).
فذهب بعض أهل العلم إلى فهم هذا الحديث على ظاهره؛ فرأى أن المسلمين انتصروا، وأنّ أهل الكفر انهزموا.
قال البيهقي رحمه الله تعالى:
" قد اختلف أهل المغازي في فرارهم وانحيازهم، منهم من ذهب إلى ذلك، ومنهم من زعم أن المسلمين ظهروا على المشركين، وانهزم المشركون، وحديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدٌ فَفُتِحَ عَلَيْهِ )، يدل على ظهوره عليهم، والله تعالى أعلم ما الصواب " انتهى. "دلائل النبوة" (4 / 375).
ويتأيد القول بانتصار المسلمين بقيادة خالد رضي الله عنه، بما ورد من حصول غنيمة في هذه الغزوة، والغنيمة تحصل لمن انتصر، وثبت في ساحة المعركة حتى يجمع ما يخلفه المنهزمون وراءهم.
روى الإمام مسلم (1753) عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: " قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ رَجُلًا مِنَ الْعَدُوِّ، فَأَرَادَ سَلَبَهُ، فَمَنَعَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَكَانَ وَالِيًا عَلَيْهِمْ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لِخَالِدٍ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُعْطِيَهُ سَلَبَهُ؟ قَالَ: اسْتَكْثَرْتُهُ يَا رَسُولَ اللهِ!! قَالَ: ادْفَعْهُ إِلَيْهِ.
فَمَرَّ خَالِدٌ بِعَوْفٍ، فَجَرَّ بِرِدَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَلْ أَنْجَزْتُ لَكَ مَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟
فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتُغْضِبَ.فَقَالَ:
لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ، لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ.
هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي أُمَرَائِي؟
إِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهُمْ، كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتُرْعِيَ إِبِلًا أَوْ غَنَمًا، فَرَعَاهَا، ثُمَّ تَحَيَّنَ سَقْيَهَا، فَأَوْرَدَهَا حَوْضًا، فَشَرَعَتْ فِيهِ، فَشَرِبَتْ صَفْوَهُ وَتَرَكَتْ كَدِرَهُ، فَصَفْوُهُ لَكُمْ، وَكَدِرُهُ عَلَيْهِمْ
.
وفي رواية له (1753) عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: ( خَرَجْتُ مَعَ مَنْ خَرَجَ مَعَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ، وَرَافَقَنِي مَدَدِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ ).
وَسَاقَ الْحَدِيثَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ:
قَالَ عَوْفٌ: " فَقُلْتُ: يَا خَالِدُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي اسْتَكْثَرْتُهُ".
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" وهذا يقتضي أنهم غنموا منهم، وسلبوا من أشرافهم، وقتلوا من أمرائهم.
وقد تقدم فيما رواه البخاري أن خالدا، رضي الله عنه قال: ( اندقت فِي يَدِي يَوْمَ مُؤْتَةَ تِسْعَةُ أَسْيَافٍ، وما ثبت فِي يَدِي إِلَّا صَفِيحَةٌ يَمَانِيَةٌ ).
وهذا يقتضي أنهم أثخنوا فيهم قتلا، ولو لم يكن كذلك لما قدروا على التخلص منهم.
وهذا وحده دليل مستقل. والله أعلم.
وهذا هو اختيار موسى بن عقبة والواقدي والبيهقي، وحكاه ابن هشام عن الزهري… " انتهى. "البداية والنهاية" (6 / 436).
وذهب جمع من أهل العلم إلى أن المراد بالفتح في الحديث: أنه بعد ما أصاب المسلمين، وما حلّ بهم من مقتل الأمراء، مما يؤدي إلى انكسار الشوكة في العادة، وعلو العدو؛ إلا أن خالد بن الوليد رضي الله عنه، أمكنه، بتوفيق الله تعالى: أن يخرج بالجيش سالما، ومنظما، ويرجع به إلى المدينة من غير أن يلاحقه العدو، أو يتغلب عليه.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" وأما ابن إسحاق: فإنه ذهب إلى أنه لم يكن إلا المحاشاة، والتخلص من أيدي الروم، وسمى هذا نصرا وفتحا؛ أي: باعتبار ما كانوا فيه من إحاطة العدو بهم، وتراكمهم وتكاثرهم وتكاثفهم عليهم، فكان مقتضى العادة أن يُصْطَلموا بالكلية، فلما تخلصوا منهم، وانحازوا عنهم؛ كان هذا غاية المرام في هذا المقام.
وهذا محتمل، لكنه خلاف الظاهر من قوله عليه الصلاة والسلام: ( ففَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) " انتهى. "البداية والنهاية" (6 / 437).
وإلى هذا القول: مال ابن القيم رحمه الله تعالى، كما في "زاد المعاد" (3 / 463).
ثانيا:
وعلى هذا القول الثاني، قد يستشكل البعض، كيف انحاز خالد رضي الله عنه بالجيش، ولم يستمت في قتال العدو؟! فيظهر له كأن فيه صورة من صور التولي يوم الزحف، وهو من الكبائر.
روى البخاري (2766)، ومسلم (89) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا هُنَّ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ .
وجواب هذا الإشكال هو:
أن ترك القتال والخروج من أرض المعركة ليس كله محرما معدودا من الفرار من الزحف، بل بعضه مشروع.
فأمير الجيش إذا رأى أن القتال لا جدوى منه، ورأى أنه لا يتحصّل منه إلا هلاك جند المسلمين، فإذا أمر بالانسحاب في هذه الحال؛ لأجل أن ينحاز إلى جماعة المسلمين يتقوى بها، فهذا لا حرج فيه، بنص القرآن الكريم.
قال الله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ الأنفال /15 – 16.
ويدخل في هذا أن ينحاز الجيش إلى البلد الذي فيه الخليفة والإمام.
روى ابن أبي شيبة في "المصنف" (18 / 537)، بإسناد رواته ثقات: عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النهدي، قَالَ: لَمَّا قُتِلَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَهُزِمَ أَصْحَابُهُ، قَالَ عُمَرُ: ( أَنَا فِئَتُكُمْ ).
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" ( أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ ) أي: فر من هاهنا إلى فئة أخرى من المسلمين، يعاونهم ويعاونونه، فيجوز له ذلك، حتى و لو كان في سرية، ففر إلى أميره أو إلى الإمام الأعظم؛ دخل في هذه الرخصة...
وكذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في أبي عبيد لما قُتل على الجسر بأرض فارس، لكثرة الجيش من ناحية المجوس، فقال عمر: لو انحاز إلي كنتُ له فئة.
هكذا رواه محمد بن سيرين، عن عمر.
وفي رواية أبي عثمان النهدي، عن عمر قال: لما قتل أبو عبيد قال عمر: ( يا أيها الناس، أَنَا فِئَتُكُمْ ) " انتهى. "تفسير ابن كثير" (4 / 27).
والمسلمون لا يجب عليهم الثبات إلا إذا كان عدوهم عدده ضعف عددهم، أو أقل؛ فإن كانوا أكثر من ذلك، رخص لهم في أن ينحازوا عن ملاقاتهم.
قال الله تعالى:
( يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ * الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) الأنفال/65 – 66.
روى البخاري (4653) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: " لَمَّا نَزَلَتْ: ( إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ )، شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، حِينَ فُرِضَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ، فَجَاءَ التَّخْفِيفُ، فَقَالَ: ( الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضُعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ )، قَالَ: فَلَمَّا خَفَّفَ اللهُ عَنْهُمْ مِنَ الْعِدَّةِ، نَقَصَ مِنَ الصَّبْرِ بِقَدْرِ مَا خُفِّفَ عَنْهُمْ ".
وروى ابن أبي شيبة في"المصنف" (18 / 536)، وغيره: عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " مَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَلَمْ يَفِرَّ، وَمَنْ فَرَّ مِنِ اثْنَيْنِ فَقَدْ فَرَّ. يَعْنِي: مِنَ الزَّحْفِ".
وعدد جنود جيش المسلمين في غزوة مؤتة قيل كان ثلاثة آلاف مسلم، أما العدو فقيل كانوا حوالي مائتي ألف.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" لعلّ طائفة منهم فرّوا لمّا عاينوا كثرة جموع العدوّ، وكانوا أكثر منهم بأضعاف مضاعفة؛ فإنّ الصحابة، رضي الله عنهم، كانوا ثلاثة آلاف، وكان العدّو - على ما ذكروه - مئتي ألف، ومثل هذا يسوّغ الفرار، على ما قد تقرّر " انتهى. "البداية والنهاية" (6 / 433 - 434).
الخلاصة:
الثابت أن خالد بن الوليد رضي الله عنه لم ينهزم بجيش المسلمين في غزوة مؤتة.
بل نص النبي صلى الله عليه وسلم على أنه فتح على يديه، واختلف أهل العلم في توجيه هذا الفتح، فقيل المقصود به: أنهم هزموا الكفار وغنموا.
وقيل: المقصود به: أنه استطاع أن ينحاز بجيش المسلمين من أرض المعركة، بطريقة منظمة وسليمة؛ من غير أن يستأصلهم الكفار، أو يهزموهم.
ثم إن خروج المسلمين من أرض المعركة إذا لم يكن على سبيل الجبن، وإنما بقصد الانحياز إلى جماعة المسلمين وأميرهم، خشية الاستئصال وهلاك الجيش = لم يكن عليهم حرج في ذلك.
والله أعلم.