الحمد لله.
قد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمى ممتلكاته بأسماء خاصة.
فقد بوّب أبو داود رحمه الله تعالى في سننه بباب، قال فيه: " بَابٌ فِي الرَّجُلِ يُسَمِّي دَابَّتَهُ ".
ثم روى فيه (2559) عَنْ مُعَاذٍ، قَالَ: " كُنْتُ رِدْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ".
وهذا الحديث قد رواه البخاري (2856)، ومسلم (30).
وبوّب عليه البخاري بقوله: " بَابُ اسْمِ الْفَرَسِ وَالْحِمَارِ ".
وروى فيه عدة أخبار منها:
منها حديث (2855) عن أُبَيّ بْن عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: "كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَائِطِنَا فَرَسٌ يُقَالُ لَهُ اللُّحَيْفُ".
ومنها حديث (2857) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: " كَانَ فَزَعٌ بِالْمَدِينَةِ فَاسْتَعَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا لَنَا يُقَالُ لَهُ مَنْدُوبٌ فَقَالَ: (مَا رَأَيْنَا مِنْ فَزَعٍ وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا ).
والظاهر المتبادر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمي ممتلكاته جريا على عادة قومه في تمييز الممتلكات بأسماء يطلقونها.
قال البغوي رحمه الله تعالى في حديثه عن أنس السابق:
" وفيه إباحة تسمية الدواب، وكان من عادة العرب تسمية الدواب، وأداة الحرب، باسم يعرف به إذا طلب سوى الاسم الجامع.
وكان سيف النبي صلى الله عليه وسلم يسمى ذا الفقار، ورايته العقاب، ودرعه ذات الفضول، وبغلته دلدل، وبعض أفراسه السكب، وبعضها البحر...
قال حميد بن زنجويه: إنما يراد بتسمية ما وصفنا فيما نرى إيجاز الكلام، لأن الرجل قد يكون في مربطه الخيل الكثيرة، والسيوف الكثيرة وغير ذلك من متاع البيت، فإذا طلب باسم يعرف به، كان أوجز وأخف من أن يطلب بالاسم الجامع، فيقال: أيها؟
وينبغي أن يحسن ذلك الاسم، فيكون أَيْمنَ له، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سمى بغلته الدُّلدل، وهو طائر، وحماره اليعفور وهو ولد الظبية، لأنهما أخف وأسرع من البغل والحمار، وسمى بعض خيله جناحا، وبعضها السرحان وهو الذئب، لأن ذا الجناح والسرحان أخف وأسرع من الخيل، وسمى رايته العقاب لسرعته، وقدرته على الصيد، ويقال: كانت رايته العقاب قطعة من مرط أسود» وكان لواؤه أبيض، ويروى: كان اسم ردائه الفتح، واسم غنمه غيثة وبركة، ليكثر لبنها، ويبارك فيها، ويروى أن اسم جاريته خضرة " انتهى. "شرح السنة" (8 / 222 — 224).
فما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، كان جريا على العادة، وليس على وجه التعبد؛ فغاية ذلك أن يدل على إباحة هذا الفعل ومشروعيته؛ لا أنه مما يتقرب إلى الله به.
ولهذا قال ابن الملقن رحمه الله تعالى في كلامه عن تبويب البخاري السابق:
" فقه الباب: جواز تسمية الدواب بأسماء تخصها، غير أسماء أجناسها " انتهى. "التوضيح" (17 /513).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" قوله: (بَابُ اسْمِ الْفَرَسِ وَالْحِمَارِ) أي مشروعيّة تسميتهما، وكذا غيرهما من الدّوابّ بأسماء تخصّها غير أسماء أجناسها.
وقد اعتنى من ألّف في السّيرة النّبويّة بسرد أسماء ما ورد في الأخبار من خيله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من دوابّه " انتهى. "فتح الباري" (6 / 58).
وعلى ذلك؛ فمن كانت هذه عادة قومه، ففعله: فلا بأس به، بل هو "سنة" بالمفهوم العام للسنة في مثل هذا الباب: أن يجري مع عادة قومه في مثله.
ومثل ذلك: إن كان يحتاج إليه؛ فإن له أن يفعله لأجل حاجته إليه، لا لأن السنة أن يفعله، مطلقا.
قال علاء الدين المرداوي رحمه الله تعالى:
" ما كان من أفعاله جبليا واضحا: كالقيام والقعود، والذهاب والرجوع، والأكل والشرب، والنوم والاستيقاظ، ونحوها، : فمباح، قطع به الأكثر "، ولم يحكوا فيه خلافا؛ لأنه ليس مقصودا به التشريع، ولا تعبدنا به، ولذلك نسب إلى الجبلة، وهي: الخلقة؛ لكن لو تأسى به متأس فلا بأس، كما فعل ابن عمر ...
وإن تركه، لا رغبة عنه ولا استكبارا، فلا بأس " انتهى. "التحبير شرح التحرير" (3 / 1455).
والله أعلم.