نرى كثيرًا في كتبِ الرجال لفظَ “… من الرابعة” أو “… من التاسعة” أو “من الخامسة…” فما معنى كل واحد من هذه الأرقام؟
الحمد لله.
من مباحث علم الرواة، مبحث معرفة طبقاتهم، والمراد بالطبقة: الجيل من الرواة، الذين جمعهم عصر واحد، فتقاربت وفياتهم، أو تشاركوا في الشيوخ.
قال ابن الصلاح رحمه الله تعالى:
” والطبقة في اللّغة: عبارة عن القوم المتشابهين، وعند هذا؛ فربّ شخصين يكونان من طَبَقة واحدة لتشابههما بالنّسبة إلى جهة، ومن طَبَقتين بالنّسبة إلى أخرى لا يتشابهان فيها.
فأنس بن مالك الأنصاريّ، وغيره من أصاغر الصّحابة: مع العشرة وغيرهم من أكابر الصّحابة، من طبقة واحدة إذا نظرنا إلى تشابههم في أصل صفة الصّحبة.
وعلى هذا؛ فالصّحابة بأسرهم طبقة أولى، والتابعون طبقة ثانية، وأتباع التابعين طَبَقة ثالثة، وهلمّ جرّا.
وإذا نظرنا إلى تفاوت الصحابة في سوابقهم ومراتبهم، كانوا على ما سبق ذكره: بِضع عشرة طَبَقة، ولا يكون عند هذا أنس وغيره من أصاغر الصّحابة من طبقة العشرة من الصّحابة بل دونهم بطبقات ” انتهى. “مقدمة ابن الصلاح” (ص500).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
” والطَّبَقة في اصطلاحهم: (عِبَارَةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ اشْتَرَكُوا فِي السِّنِّ وَلِقَاءِ المَشَايِخ).
وقد يكون الشّخص الواحد من طبقتين باعتبارين؛ كأنس بن مالك، فإنّه من حيث ثبوت صحبته للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: يعدّ في طَبَقة العشرة مثلا، ومن حيث صغر السّنّ: يعدّ في طَبَقة بعدهم.
فمن نظر إلى الصّحابة باعتبار الصّحبة، جعل الجميع طَبَقة واحدة؛ كما صنع ابن حبّان، وغيره، ومن نظر إليهم باعتبار قدر زائد – كالسّبق إلى الإسلام، أو شهود المشاهد الفاضلة – جعلهم طبقات.
وإلى ذلك جنح صاحب “الطّبقات” أبو عبد اللّه محمّد بن سعد البغداديّ، وكتابه أجمع ما جُمِع في ذلك.
وكذلك من جاء بعد الصّحابة – وهم التّابعون – من نظر إليهم باعتبار الأخذ عن بعض الصّحابة فقط؛ جعل الجميع طَبَقة واحدة، كما صنع ابن حبّان أيضا، ومن نظر إليهم باعتبار اللّقَاء؛ قسّمهم كما فعل محمّد بن سعد ” انتهى. “نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر” (ص235).
ولتحديد طبقة الراوي يحتاج الباحث:
” إلى معرفة المواليد، والوفيات، ومن أخذوا عنه، ومن أخذ عنهم ونحو ذلك ” انتهى. “مقدمة ابن الصلاح” (ص500).
ومعرفة طبقة الراوي: مفيد للغاية في معرفة رواة الإسناد، والتمييز بين المتشابهين في الأسماء أو الأنساب أو الكنى، ومعرفة اتصال الإسناد أو انقطاعه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
” ومن المهمّ عند المُحَدِّثِين: (مَعْرِفَةُ طَبَقَاتِ الرُّوَاةِ).
وفائدته: الأمن من تداخل المشتبهين، وإمكان الاطّلاع على تبيين التّدليس، والوقوف على حقيقة المراد من العنعنة ” انتهى. “نزهة النظر” (ص235).
وهذا المبحث المتعلق بتاريخ الرواة: مما تميزت به هذه الأمة، لأنه متعلق بمعرفة أسانيد الأخبار.
ولأهل العلم في توزيع الرواة على طبقات مناهج عدة. والمشتهر عند أهل العلم المتأخرين، هو المنهج الذي اتبعه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في كتابه “تقريب التهذيب”، وهو الذي يستعمل هذا المصطلح الذي ذكرته في السؤال “…من الرابعة” أو “…من التاسعة” أو “من الخامسة…”.
وقد شرح هذا التقسيم في مقدمة كتابه “تقريب التهذيب”، حيث قال رحمه الله تعالى:
” فالتمس مني بعضُ الإخوان أن أجرِّدَ له الأسماء خاصة [يعني بذلك: أسماء رواة الكتب الستة وبعض مصنفات أصحاب هذه الكتب]، فلم أوثر ذلك، لقلة جدواه على طالبي هذ الفن، ثم رأيت أن أجيبه إلى مسألته، وأسعفه بطلبته، على وجه يحصل مقصوده بالإفادة، ويتضمن الحسنى التي أشار إليها، وزيادة، وهي:
أحكم على كل شخص منهم بحكم يشمل أصحَّ ما قيل فيه، وأعدلَ ما وُصف به، بألخَصِ عبارةٍ، وأخلص إشارةٍ، بحيث لا تزيد كلُّ ترجمة على سطر واحد غالبا، يجمع اسم الرجل واسم أبيه وجدّه، ومنتهى أشهر نسبته ونسبه، وكنيته ولقبه، مع ضبط ما يُشكِل من ذلك بالحروف، ثم صفته التي يختص بها من جرح أو تعديل، ثم التعريف بعصر كل راو منهم، بحيث يكون قائما مقام ما حذفته من ذكر شيوخه والرواة عنه، إلا من لا يؤمن لَبْسُه.
وباعتبار ما ذكرتُ، انحصر لي الكلام على أحوالهم في اثنتي عشرة مرتبةً، وحصر طبقاتهم في اثنتي عشرة طبقة…
وأما الطبقات:
فالأولى: الصحابة، على اختلاف مراتبهم، وتمييز من ليس له منهم إلا مجرد الرّؤية من غيره.
الثانية: طبقة كبار التابعين، كابن المسيب، فإن كان مخضرما صرّحت بذلك.
الثالثة: الطبقة الوسطى من التابعين، كالحسن وابن سيرين.
الرابعة: طبقة تليها، جلّ روايتهم عن كبار التابعين، كالزّهري وقتادة.
الخامسة: الطبقة الصغرى منهم، الذين رأوا الواحد والاثنين، ولم يثبت لبعضهم السماع من الصّحابة، كالأعمش.
السادسة: طبقة عاصروا الخامسة، لكن لم يثبت لهم لقاء أحد من الصحابة، كابن جريج.
السابعة: كبار أتباع التابعين، كمالك والثوري.
الثامنة: الطبقة الوسطى منهم، كابن عيينة وابن عُلَيّة.
التاسعة: الطبقة الصغرى من أتباع التابعين: كيزيد بن هارون، والشافعي، وأبي داود الطيالسي، وعبد الرزاق.
العاشرة: كبار الآخذين عن تَبَعِ الأتباع، ممن لم يلق التابعين، كأحمد بن حنبل.
الحادية عشرة: الطبقة الوسطى من ذلك، كالذّهلي والبخاري.
الطبقة الثانية عشرةَ: صغار الآخذين عن تبع الأتباع، كالترمذي، وألحقت بها باقي شيوخ الأئمة الستة، الذين تأخرت وفاتهم قليلا، كبعض شيوخ النسائي ” انتهى. “تقريب التهذيب” (ص 73 — 75).
الخلاصة:
ما يرد في التعريف بالرواة من قولهم: “…من الرابعة” أو “…من التاسعة” أو “من الخامسة…”، المقصود به طبقة الراوي، على حسب المنهج والترتيب الذي مشى عليه الحافظ ابن حجر في كتابه “تقريب التهذيب”، وقد بيّنها في مقدمة كتابه.
والله أعلم.