هل يحرم القتال إذا كان مقابل كل شخص أكثر من عشرة؟

05-11-2007

السؤال 67790

حينما يكثر عدد المعاندين والكافرين في الجهاد كثرة تزيد عن مائتين مقابل عشرين من المسلمين . لا يجوز أن نشارك في الحرب لأن الله تبارك وتعالي عين عددا في الحرب . هل هذا صحيح أم لا ؟

الجواب

الحمد لله.


لا خلاف بين الفقهاء في وجوب الثبات في الجهاد ، وتحريم الفرار ؛ لقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الأنفال/15، 16 ، وقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) الأنفال/45 .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ . وذكر منها : وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ) رواه البخاري (2560) ومسلم (129).
إلا أنه يستثنى من ذلك ثلاثة مواضع :
الأول : أن يكون الفرار تحرُّفا لقتال ، ويأتي بيان التحرّف .
الثاني : أن يكون الفرار تحيزا إلى فئة من المسلمين ، ولو بَعُدَت .
الثالث : أن يزيد عدد الكفار على ضعف المسلمين ، فيجوز الفرار حينئذ . وهذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أهل المذاهب الأربعة ، واستدل الجمهور بقوله تعالى : ( الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) الأنفال/66 .
فلا يجوز لعشرة أن يفروا من عشرين ، ولا لمائة أن يفروا من مائتين ، فإن زاد الكفار عن الضعف جاز الفرار .
وهذا تخفيف من الله تعالى ، وهو نسخ لوجوب مصابرة العشرين للمائتين ، والمائة للألف ، الوارد في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ) الأنفال/65 .
وقول السائل : إنه لا يجوز أن نشارك في الحرب حينئذ ، غير صحيح . ففرق بين قولنا : يجوز الفرار ، وقولنا : يجب الفرار أو يحرم القتال . فلو أن المسلمين ثبتوا مع أضعافهم جاز ذلك ، وهذا ما كان عليه حال المسلمين في أكثر معاركهم ، لا سيما المعارك العظيمة الفاصلة كالقادسية واليرموك .
وينبغي التنبه إلى أنه إن هجم العدو على بلاد المسلمين ، وجب الدفع ، ولو كان الكفار أضعاف المسلمين ، ولا يجوز الفرار حينئذ إلا للتحرف لقتال أو التحيز إلى فئة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وقتال الدفع : مثل أن يكون العدو كثيرا لا طاقة للمسلمين به ، لكن يُخاف إن انصرفوا عن عدوهم عطف العدو على من يخلّفون من المسلمين . فههنا قد صرح أصحابنا بأنه يجب أن يبذلوا مهجهم ومهج من يخاف عليهم في الدفع حتى يَسْلَموا . ونظيرها : أن يهجم العدو على بلاد المسلمين وتكون المقاتِلة أقل من النصف ، فإن انصرفوا استولوا على الحريم ، فهذا وأمثاله قتال دفع ، لا قتال طلب ، لا يجوز الانصراف فيه بحال ، ووقعة أحد من هذا الباب " انتهى من "الاختيارات الفقهية" ص 258
وإليك كلاما نافعا لابن قدامة رحمه الله ، يبين هذه المسألة ، ويوضح معنى التحرّف والتحيز ، قال رحمه الله : "إذا التقى المسلمون والكفار وجب الثبات ، وحرم الفرار ، بدليل قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ) الآية . وقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ) وذكر النبي صلى الله عليه وسلم الفرار يوم الزحف ، فعده من الكبائر ...
وإنما يجب الثبات بشرطين : أحدهما : أن يكون الكفار لا يزيدون على ضعف المسلمين ، فإن زادوا عليه جاز الفرار ، لقول الله تعالى : ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ) . وهذا إن كان لفظه لفظ الخبر ، فهو أمر ... قال ابن عباس : نزلت : ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ) فشق ذلك على المسلمين حين فرض الله عليهم ألا يفر واحد من عشرة ، ثم جاء تخفيف فقال : ( الآن خفف الله عنكم ) إلى قوله : ( يغلبوا مائتين ) فلما خفف الله عنهم من العدد ، نقص من الصبر بقدر ما خفف من العدد . رواه أبو داود .
وقال ابن عباس : من فر من اثنين فقد فر ، ومن فر من ثلاثة فما فر .
الثاني : أن لا يقصد بفراره التحيّز إلى فئة ، ولا التحرف لقتال ، فإن قصد أحد هذين : فهو مباح له ؛ لأن الله تعالى قال : ( إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة ) . ومعنى التحرّف للقتال : أن ينحاز إلى موضع يكون القتال فيه أمكن ، مثل أن ينحاز من مواجهة الشمس أو الريح إلى استدبارهما ، أو من نزلة إلى علو ، أو من معطشة إلى موضع ماء ، أو يفر بين أيديهم لتنتقض صفوفهم ، أو تنفرد خيلهم من رجالتهم ، أو ليجد فيهم فرصة ، أو ليستند إلى جبل ، ونحو ذلك مما جرت به عادة أهل الحرب ...
وأما التحيز إلى فئة : فهو أن يصير إلى فئة من المسلمين ليكون معهم ، فيقوى بهم على عدوهم ، وسواء بعدت المسافة أو قربت . قال القاضي : لو كانت الفئة بخراسان والفئة بالحجاز ، جاز التحيز إليها ، ونحوه ذكر الشافعي ، لأن ابن عمر روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إني فئة لكم ، وكانوا بمكان بعيد منه ، وقال عمر : أنا فئة كل مسلم ، وكان بالمدينة وجيوشه بمصر والشام والعراق وخراسان . رواهما سعيد .
وقال عمر : رحم الله أبا عبيدة لو كان تحيز إلي لكنت له فئة " .
ثم قال ابن قدامة رحمه الله : "وإذا كان العدو أكثر من ضعف المسلمين ، فغلب على ظن المسلمين الظفر ، فالأولى لهم الثبات ؛ لما في ذلك من المصلحة ، وإن انصرفوا جاز ؛ لأنهم لا يأمنون العطب ، والحكم عُلق على مظنته ، وهو كونهم أقل من نصف عددهم ، ولذلك لزمهم الثبات إذا كانوا أكثر من النصف وإن غلب على ظنهم الهلاك فيه .
ويحتمل أن يلزمهم الثبات إن غلب على ظنهم الظفر ؛ لما فيه من المصلحة .
وإن غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة ، والنجاة في الانصراف ، فالأولى لهم الانصراف ، وإن ثبتوا جاز ، لأن لهم غرضا في الشهادة ، ويجوز أن يغلبوا أيضا" انتهى من "المغني" (9/254) .
وكلامه الأخير واضح في جواز القتال مع القلّة ، بل ومع غلبة الظن بحصول الهلاك ، خلافا لما ظنه السائل .
والله أعلم .
الجهاد والهجرة
عرض في موقع إسلام سؤال وجواب