السنة أن يسنّم القبر ويرفع قدر شبر
قرأت الحديث عن تسوية القبور المرتفعة المروي عن علي (رضي الله عنه). وقد كان قبر جدتي مرتفعاً بقدر أربعة أقدام تقريباً ، ومبنيا من الرخام . وقد هدمت الجزء العلوي من القبر وجعلته منخفضاً – اتباعاً للسنة .
وبعد ذلك صادف أن قرأت الإجابة عن السؤال رقم 8991 في هذا الموقع والذي يتضمن عبارة: " ومِن رفع القبور الداخل تحت الحديث: القُبب والمشاهد المبنية على القبور، واتخاذ القبور مساجد..." .
والآن أشعر بالقلق أنني ربما فعلت شيئاً فيه امتهان للقبر أو لروح جدتي ؟!!
ثانياً، كبار الأسرة يلعنوني بسبب ما فعلت . فهل ارتكبت خطأً ، وإذا كان كذلك فماذا ينبغي أن أفعل؟
الجواب
الحمد لله.
أولا :
السنة أن يرفع القبر عن الأرض قدر شبر ، وأن يجعل مسنّما لا مسطحا ، في قول جمهور
العلماء ؛ لما روى البخاري (1390) عَنْ سُفْيَانَ التَّمَّارِ أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَنَّمًا.
وروى ابن حبان في صحيحه (6635) والبيهقي في السنن (6527) ـ حسنه الألباني ـ عن جابر
بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أُلحد ، ونُصب عليه اللبن
نصبا ، ورفع قبره من الأرض نحوا من شبر .
قال في "زاد المستقنع" : " ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر مسنما " .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرحه "الشرح الممتع" (5/364) : " أي السنة أن
يرفع القبر عن الأرض ، وكما أنه سنة ، فإن الواقع يقتضيه ؛ لأن تراب القبر سوف يعاد
إلى القبر ، ومعلوم أن الأرض قبل حرثها أشد التئاما مما إذا حرثت ، فلا بد أن يربو
التراب .
وأيضا فإن مكان الميت كان بالأول ترابا ، والآن صار فضاء ، فهذا التراب الذي كان في
مكان الميت في الأول سوف يكون فوقه ...
واستثنى العلماء من هذه المسألة : إذا مات الإنسان في دار حرب ، أي : في دار الكفار
المحاربين ، فإنه لا ينبغي أن يُرفع قبره ، بل يسوى بالأرض خوفا عليه من الأعداء أن
ينبشوه ، ويمثلوا به ، وما أشبه ذلك .
وقوله : " مسنما " أي : يجعل كالسنام بحيث يكون وسطه بارزا على أطرافه ، وضد المسنم
: المسطح الذي يجعل أعلاه كالسطح .
والدليل على هذا : أن هذا هو صفة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وقبري صاحبيه "
انتهى.
وقال ابن القيم رحمه الله :
" ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تعلية القبور ولا بناؤها بآجر ولا بحجر ولبن
، ولا تشييدها ولا تطيينها ، ولا بناء القباب عليها ؛ فكل هذا بدعة مكروهة مخالفة
لهديه صلى الله عليه وسلم ....، وكانت قبور أصحابه لا مشرفة ولا لاطئة ، وهكذا كان
قبره الكريم وقبر صاحبيه ؛ فقبره صلى الله عليه وسلم مسنم مبطوح ببطحاء العرصة
الحمراء ، لا مبني ولا مطين ، وهكذا كان قبر صاحبيه ، وكان يعلم قبر من يريد تعرف
قبره بصخرة " .
انتهى من زاد المعاد (1/524)
ثانيا :
أما ما رواه مسلم (969) عَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ قَالَ قَالَ لِي عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ : أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا
طَمَسْتَهُ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ ).
فالمقصود بالتسوية هنا ، أي تسويته بسائر القبور ، وقد تقدم أنها تكون في حدود
الشبر .
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم : " فِيهِ أَنَّ السُّنَّة أَنَّ الْقَبْر لَا
يُرْفَع عَلَى الْأَرْض رَفْعًا كَثِيرًا , وَلَا يُسَنَّم , بَلْ يُرْفَع نَحْو
شِبْر وَيُسَطَّح , وَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمَنْ وَافَقَهُ , وَنَقَلَ
الْقَاضِي عِيَاض عَنْ أَكْثَر الْعُلَمَاء أَنَّ الْأَفْضَل عِنْدهمْ تَسْنِيمهَا
وَهُوَ مَذْهَب مَالِك " انتهى .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "القول المفيد شرح كتاب التوحيد" :
" قوله : ( ولا قبرا مشرفا ) : عاليا .
قوله : ( إلا سويته ) . له معنيان :
الأول : أي سويته بما حوله من القبور .
الثاني : جعلته حسنا على ما تقتضيه الشريعة ، قال تعالى : ( الذي خلق فسوى )
( الأعلى : 2 )
أي : سوى خلقه أحسن ما يكون ، وهذا أحسن ، والمعنيان متقاربان .
والإشراف له وجوه :
الأول : أن يكون مشرفا بكبر الأعلام التي توضع عليه ، وتسمى عند الناس ( نصائل ) أو
( نصائب ) ، ونصائب أصح لغة من نصائل .
الثاني : أن يبنى عليه ، هذا من كبائر الذنوب ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم : (
لعن المتخذين عليه المساجد والسرج ) .
الثالث : أن تشرف بالتلوين ، وذلك بأن توضع على أعلامها ألوان مزخرفة .
الرابع : أن يرفع تراب القبر عما حوله ليكون ظاهرا .
فكل شي مشرف ، ظاهر على غيره متميز عن غيره يجب أن يسوى بغيره ، لئلا يؤدي ذلك إلى
الغلو في القبور والشرك " انتهى .
ثالثا :
قد تبين مما سبق أن بناء القبب والمشاهد على القبور ممنوع ، وهو ذريعة إلى تعظيمها
والإشراك بها ، وكذلك رفع القبر أكثر من شبر تقريبا ، ممنوع أيضا .
قال الشوكاني رحمه الله :
" ومن رفع القبور الداخل تحت الحديث [ يعني حديث علي السابق ] دخولا أوليا : القبب
والمشاهد المعمورة على القبور ، وأيضا هو من اتخاذ القبور مساجد ، وقد لعن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم فاعل ذلك ...
وكم قد سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام ؛ منها
اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام ، وعظُم ذلك فظنوا أنها قادرة على جلب
النفع ودفع الضرر، فجعلوها مقصدا لطلب قضاء الحوائج وملجأ لنجاح المطالب ، وسألوا
منها ما يسأله العباد من ربهم ، وشدوا إليها الرحال ، وتمسحوا بها واستغاثوا ؛
وبالجملة إنهم لم يَدَعوا شيئا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه ، فإنا
لله وإنا إليه راجعون !!
ومع هذا المنكر الشنيع ، والكفر الفظيع ، لا نجد من يغضب لله ويغار حمية للدين
الحنيف ، لا عالما ولا متعلما ، ولا أميرا ولا وزيرا ولا ملكا ؟!!
وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثيرا من هؤلاء المقبوريين ، أو
أكثرهم ، إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه حلف بالله فاجرا ، فإذا قيل له بعد ذلك :
احلف بشيخك ومعتقدك ، الولي الفلاني ، تلعثم وتلكأ وأبى واعترف بالحق ؟!!
وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال إنه تعالى ثاني
اثنين أو ثالث ثلاثة ؛ فيا علماء الدين ويا ملوك المسلمين أي رزء للإسلام أشد من
الكفر ، وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله ، وأي مصيبة يصاب بها
المسلمون تعدل هذه المصيبة ، وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين
واجبا :
لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نارا نفختَ بها أضاءت ... ولكن أنت تنفخ في رماد "
انتهى من نيل الأوطار (4/83-84) .
وبهذا تعلم أن ما قمت به من هدم الرخام ، وإزالة الجزء العلوي من القبر ، أمر حسن ،
موافق للسنة التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس فيه من امتهان القبر أو
صاحبه شيء ، بل الإكرام للقبر وصاحبه أن يكون على سنة النبي صلى الله عليه وسلم .
وأما ما ذكرته من أن كبار السن صاروا يلعنونك على ما فعلت فهذا عدوان وظلم منهم ،
واصبر على ما أصابك من أجل ما قمت به من الطاعة ؛ فهكذا حال من يأمر الناس بمعروف
أو ينهاهم عن منكر . قال الله تعالى ، فيما حكى لنا من وصايا لقمان الحكيم لابنه :
( يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)
(لقمان:17)
لكن يجب أن يراعى في ذلك عدم حدوث مفسدة أعظم ؛ فإن شرط إنكار المنكر ألا يخلفه ما
هو أنكر منه .
ولهذا إذا غلب على ظن الإنسان أنه لو سوّى القبر ، حدث بسبب ذلك فتنة في بلده أو
قومه ، أو ناله أذى من سجن أو ضرب ، فإنه يسعه السكوت حينئذ ، وقد يحرم عليه
الإنكار إذا عظمت المفسدة ، أو كانت تلحق غيره من أخ أو قريب .
والله أعلم .