هل نسامح الكافر إذا آذانا

09-09-2002

السؤال 8894

ما هو الحكم حول مسامحتنا للكفار إذا ذكرونا بسوء خلف ظهورنا ، أو إذا تسببوا في حدوث أمور مثل , انبعاجات في سياراتنا ؟
الحكم العادي الذي أعرفه هو مسامحة الشخص الجاهل ، الذي لا يقصد التسبب في الأمر الذي وقع. لكني قرأت في "أصول السنة" , بالإنكليزية , أن الإمام أحمد قال : " أسامح أي شخص إلا المبتدع " . فإذا كان الإمام لا يسامح مبتدعا , فكيف نقوم بمسامحة الكفار ؟.

الجواب

الحمد لله.

أولاً :

يحث الإسلام على المسامحة والعفو والصفح والمغفرة ، وقد جاء هذا في القرآن والسنة ، بل إن من سمات الإسلام أنه دين الرحمة ، وكذلك المسلم مبشِّر غير منفر ، يعفو عند المقدرة ، ويسامح عند الزلة .

قال الله تعالى : ودَّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير البقرة / 109 .

وقال تعالى : فبما نقضهم ميثاقهم لعنَّاهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظّاً مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلاً منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين المائدة / 13 .

وقال عز وجل : يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم التغابن / 14 .

فهذا الصفح عن الكفار يكون من أجل احتساب الأجر عند الله تعالى ، ومن أجل أن تلين قلوب الكافرين للدخول في دين الله تعالى فهو لين مستحب وصفح مستحب يراد به تحقيق أمور عظيمة ، وهي الأجر من عند الله تعالى وترغيب الكافر في الدخول في دين الله تعالى فإن أخلاق المسلمين قد غزت قلوب كثير من المشركين قبل أن تغزو سيوفُهم وخيولُهم حصونَهم فدخلوا في دين الله أفواجاً رغبة في هذا الدين الذي يتخلق أهله بهذا الخلق الجميل .

وقد قال الله تعالى في هذا فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين آل عمران / 159 ، فهذه رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم ورفقه ولينه كانت سبباً في دخول الناس في دين الله تعالى ، ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم على غير ذلك اللين والرفق لانفض الناس من حوله وتركوه ولم يؤمنوا بدعوته .

وعن عروة بن الزبير : أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : السام عليكم ( السام هو الموت ) ، قالت عائشة : ففهمتُها ، فقلت : وعليكم السام واللعنة ، قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهلا يا عائشة ، إن الله يحب الرفق في الأمر كله ، فقلت : يا رسول أو لم تسمع ما قالوا ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد قلت : وعليكم " .

رواه البخاري ( 5678 ) ومسلم ( 2164 ) .

قال ابن حجر - في تفسير هذا الحديث - :

لأن اليهود حينئذ كانوا أهل عهد فالذي يظهر أن ذلك كان لمصلحة التآلف .

" فتح الباري " ( 11 / 43 ) .

ثانياً :

قد أذن الله تعالى للمسلم إذا اعتدي عليه أن ينتصر ولكنه رغبه في العفو فقال : وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين . ولَمَن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل . إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم . ولَمَن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور الشورى / 40 – 43 .

وقال الله تعالى : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعاً عليماً النساء / 148 .

ولكن مما ينبغي العلم به أن المسلم يعفو عن الأذى الذي يصيبه من الكافر بحيث لا يورث ذلك ذلاً وصغاراً للمسلم لأن المسلم عزيز ، وقد أعطاه الله تعالى عزة يجب عليه أن يعتز بها وأن يتخلق بها لأن في عزته عزة للإسلام وللمسلمين عموماً ، أما إن كان هذا العفو يورث ذلاً فعندئذٍ يجب للمسلم أن ينتصر وفي ذلك يقول الله تعالى : والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون الشورى / 39 .

قال الإمام ابن رجب الحنبلي - في تفسير هذه الآية - :

وأما قوله : والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون الشورى / 39 ، فليس منافياً للعفو؛ فإن الانتصار يكون بإظهار القدرة على الانتقام ، ثم يقع العفو بعد ذلك ، فيكون أتم وأكمل ، قال النخعي في هذه الآية : كانوا يكرهون أن يستذلوا فإذا قدروا عفَوا ، وقال مجاهد : كانوا يكرهون للمؤمن أن يذل نفسه فتجتريء عليه الفساق .

فالمؤمن إذا بُغى عليه يظهر القدرة على الانتقام ثم يعفو بعد ذلك وقد جرى مثل هذا لكثير من السلف منهم عطاء وقتادة وغيرهما .

" جامع العلوم والحكم " ( 1 / 179 ) .

ولذلك فليس العفو ممدوحاً في جميع المواضع ، بل قد يكون مذموماً إذا ترتب عليه إذلال المسلم أو تجرؤ المعتدي على الاعتداء ، ونحو ذلك .

وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في قوله : ( فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) فبين أن العفو لا يكون ممدوحاً إلا إذا كان على وجه الإصلاح ، فإن ترتب عليه مفسدة لم يكن ممدوحاً .

ولذلك ينبغي للمسلم أن ينظر في الأصلح من العفو أو الانتصار فيفعله ، وهذا يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص وكلام الإمام أحمد رحمه الله في العفو عن كل من ظلمه إلا المبتدع موافق لهذا ، فإنه رحمه الله رأي أن العفو على أهل البدع تحصل به مفسدة وهو جرأة الناس على البدع فصرح بأنه لن يعفو عن مبتدع ليرتدع الناس بذلك عن البدع .

وقال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم المائدة / 54 .

وقال تعالى : محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما الفتح / 29 .

فالمسلم يحق له أن يعفو عن حقه المتعلق به ، أي : حقه الشخصي ، ولا يحق له أن يسكت عند حرمات الله تعالى .

عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما ، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه ، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها " .

رواه البخاري ( 3367 ) ومسلم ( 2327 ) .

ثالثاً :

ويجوز للمسلم أن يكف يده عن الكافر إذا كان المسلم ضعيفاً غير قوي ، فإن كان ضعيفاً غير قوي جاز له ألا يقاتل ، وقد نهى الله تعالى المسلمين وهم مستضعفون في أول الإسلام عن القتال .

قال الله تعالى : إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور الحج /38

قال الإمام القرطبي - في تفسير هذه الآية - :

روي أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار ، وهاجر مَن هاجر إلى أرض الحبشة أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل مَن أمكنه مِن الكفار ويغتال ويغدر ويحتال ، فنزلت هذه الآية إلى قوله كفور فوعد فيها سبحانه بالمدافعة ، ونهى أفصح نهي عن الخيانة والغدر .

" تفسير القرطبي " ( 12 / 67 ) .

فلما قويت شوكة المؤمنين بعد ضعفها أذن الله للمؤمنين بالقتال فقال : أُذِنَ للذين يقاتَلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الحج / 39 .

قال الإمام القرطبي - في تفسير هذه الآية - :

قوله تعالى: أذن للذين يقاتلون قيل : هذا بيان قوله إن الله يدافع عن الذين آمنوا أي: يدفع عنهم غوائل الكفار بأن يبيح لهم القتال وينصرهم ، وفيه إضمار ، أي : أذن للذين يصلُحون للقتال في القتال ، فحذف لدلالة الكلام على المحذوف ، وقال الضحاك : استأذن أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار إذ آذوهم بمكة ، فأنزل الله إن الله لا يحب كل خوان كفور ، فلما هاجر نزلت أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ، وهذا ناسخ لكل ما في القرآن من إعراض وترك صفح ، وهي أول آية نزلت في القتال ، قال ابن عباس وابن جبير : نزلت عند هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وروى النسائي والترمذي عن ابن عباس قال : لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيَّهم ليهلكن ، فأنزل الله تعالى : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ، فقال أبو بكر : لقد علمت أنه سيكون قتال .

صححه الألباني في صحيح الترمذي ( 2535 )

" تفسير القرطبي " ( 12 / 68 ) .

رابعاً :

على للمسلم أن يترك حقه الذي له عند الكافر إذا كان يترتب على انتصاره للحق مفسدة أكبر من ضياع حقه .

وقد ذكر العلماء أن إنكار المنكر يكون حراماً إذا كان سيترتب عليه منكر أعظم .

إعلام الموقعين ( 3 / 4 )

مثال ذلك في قضيتنا :

المسلمون الذين يعيشون في بلد يغلب عليها الكفر ، فلو أن أحد المسلمين ظُلم من قِبلهم أو شُتم أو ضُرب ، وكان انتصارُ هذا المظلوم لنفسه سبباً لنقمة الكفار عليه وعلى إخوانه المسلمين فالحكمة أن يسكت راجياً بذلك مصلحة المسلمين في تلك البلاد ويحتسب الأجر في ذلك عند من لا يضيع عنده صغيرة ولا كبيرة .

وإن استطاع رد هذا الظلم وإظهار عزة الإسلام والمسلمين دون ترتب ضرر أعظم من أذيتهم وجب عليه دفع هذا الظلم وإعزاز دينه وإذلال الكفر وأهله .

والله أعلم  .

الجنايات
عرض في موقع إسلام سؤال وجواب