نصيحة لداعية يريد هجر أهله الذين وقعوا في المعاصي
أخي قد بلغ من عمره 21 سنة ، وقد بدأ يكرهنا ، وخاصة أخاه الكبير ؛ لمشاهدته التلفاز ، ومخالفته لبعض أحكام الشريعة ، عالما بحرمة بعضه دون بعض ، ولعله سيهجرنا جميعاً ، وقد يئس منا، بأننا لم نكن على الصراط السوي الذي يدعو إليه ، ونبهته إلى ما قال الله ربنا جلَّ وعلا في محكم كلامه : ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ) وأمثاله ، فإنه في كثير من كلامه يحدثنا بأنه يجب علينا أن نلتزم ونعتصم بحبله سبحانه وتعالى في كل مكان وزمان ، ويقول إنه يريد أن يعيش العيشة التي عاشها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
أفتوني ، فإن أخي يريد أن ينعزل عنا جميعا ، ليس أبد الآباد كما هو ظاهر كلامي ، ولكنه عزم على أنه سيقوم بكل ما شرع الله بجد وقدر استطاعته .
الجواب
الحمد لله.
أولاً :
لا بدَّ من توجيه رسالة لكم أولاً ، فنقول : إنه يجب عليكم أن تتقوا الله ربكم ،
وأن تتركوا ما تفعلونه مما يغضب الرب تعالى ، من المعاصي والآثام ، كما يجب عليكم
الالتزام بكل ما أمركم الله تعالى به ، ولا يسعكم غير هذا إن أردتم النجاة من
العقوبة ، وتحقيق الفوز برضا الرحمن سبحانه وتعالى .
ووجود أخٍ لكم ينكر عليكم معاصيكم ، ويطلب منكم الالتزام بشرع الله تعالى هو رحمة
من الله بكم ، فكم يوجد من أهل المعاصي والفجور ولا يجدون ناصحاً يدلهم على الحق ،
ولا واعظاً يأمرهم وينهاهم ، فالواجب عليكم ترك المحرمات ، وفعل الطاعات ، وإكرام
أخيكم الذي جعله الله رحمة لكم وبكم .
ثانياً :
ورسالتنا لأخيكم نرسلها له في نقاط :
1. اعلم أن الدعوة إلى الله واجبة على كل مسلم ، وهي على أهل العلم أوجب ، وأول ما
أوجب الله تعالى الدعوة على نبيه إنما أوجبها في حق أهله ، فقال تعالى : (
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ )
الشعراء/214 ، فلذا يجب وضع هذا في
اهتمامك ، وجعله غاية عندك .
2. واعلم أن الدعوة إلى الله تحتاج للصبر ، والصبر هنا هو صبر على طاعة الله تعالى
، وليس طريق الدعوة مليئاً بالورود والرياحين ، بل يعاني الداعية مشقة وتعباً في
توجيه الناس نحو طريق الخير ، وفي سعيه لهدايتهم ، وتأمل وصية لقمان لابنه حين قال
: ( يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ )
لقمان/17
، فقد جاء بالأمر بالصبر بعد الأمر بالدعوة ، حتى يهيئه لهذا الطريق ، فلا ينبغي لك
الضجر من دعوة أهلك ، ولا الضجر من الاستمرار بها .
3. ومما ينبغي لك معرفته : أن الدعوة إلى الله بحاجة لأسلوب يصل به الداعية لقلوب
المدعوين ، وليس العنف والهجر من الأساليب الناجعة في هذا ، بل الرفق واللين هما
المطلوبان في الدعوة عموماً ، وبخاصة في دعوة الأهل ، قال تعالى : ( فَبِمَا
رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ
لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) آل عمران/159
، فتأمل هذه الآية جيِّداً لتعلم أن انفضاض الناس عن الداعية إنما هو بسبب شدته
وعنفه ، وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي
شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ )
رواه مسلم ( 2594 )
.
4. وعليك أن تكون حكيماً في دعوة أهلك ، وتنوع طرق الوصول لقلوبهم ، بالهدية ،
والخدمة ، والتلطف في القول ، كما عليك أن تنوع طرق النصيحة كتشغيل شريط ، أو إحضار
فيلم مؤثر ، أو محاضرة منتقاة ، أو استضافة بعض الدعاة الذين يحسنون مخاطبة الناس
ودعوتهم ، أو جعل غيرك ينصحهم ويوجههم ، وهكذا يمكن أن يُكتب النجاح لدعوتك.
5. وجود المعاصي من الأهل بل الكفر بل الدعوة للكفر لا يمنع من أن يحسن المسلم
معاملتهم ، ويبرهم ، ويستمر معهم في الدعوة ، قال تعالى : ( وَوَصَّيْنَا
الْإِِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ
لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) العنكبوت/8
، وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ظلَّ يدعو عمه أبا طالب مع بقائه على الشرك
والكفر حتى الرمق الأخير ، فأين المتبعون لسنته منه صلى الله عليه وسلم في حرصه
وهمه على المخالفين للشرع ، حتى قال له ربه تعالى : ( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ
عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ) فاطر/8
، وقال له : ( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا
بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ) الكهف/6
.
6. لا ينبغي لك هجر أهلك ، وتركهم فريسة للشيطان ، بل عليك الصبر والتحمل .
نعم ، لك أن تهجر مكان المعصية فلا تجلس حيث يُشغَّل التلفاز بالمحرمات ، لكن لا
داعي لهجرهم أثناء الطعام أو الحديث أو زيارة الناس لكم ، وإنما يُشرع الهجر حيث
يمكن للداعية أن يتأثر ببيئة فاسدة تؤثر على دينه ، أما هجر أهله لأنهم لم يستجيبوا
له : فليس بمشروع ، إلا أن ترى أن خروجك يمكن أن يكون مؤثراً عليهم بحيث يتركون
سماع ومشاهدة المحرمات ، لكن الأكمل هو بقاؤك وتلطفك معهم في الدعوة ؛ حتى يكون
تركهم للمحرمات وفعلهم للواجبات عن قناعة والتزام بشرع الله .
7. ولا تنس أن تستعين بالدعاء لربك تعالى أن يهدي قلوب أهلك ، ويوفقهم لاتباع الحق
، وهكذا كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يفعل ، فقد دعا لقبيلة " دوس " ، ودعا
لثقيف ، بل أخبرنا عن بعض الأنبياء أنه كان يدعو لقومه وهم يؤذونه ويضربونه ! .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن مَسْعُود رضي الله عنه: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ
الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ
وَجْهِهِ وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ .
رواه البخاري ( 3290 ) ومسلم ( 1792 ) .
ونسأل الله تعالى أن يكتب لك الأجر
، وأن يهديك لما يحب ويرضى ، وأن يهدي أهلك لطريق الاستقامة ، وأن يجمعكم في الدنيا
على خير وهدى ، وفي الآخرة في الفردوس الأعلى .
والله الموفق