أحب زوجي حبّاً جنونيّاً ، وهو راضٍ عني كل الرضا ، وعندما سافر للعمل في انتظار أن أصل إليه : أصبحت أشتاق إليه ، ولا أرتاح حتى يكلمني ، رغم أنني أقوم بواجباتي الدينية ؛ أحس بنقص في عدم وجوده ، فبماذا تنصحوني ، إخواني في الله ، للصبر حتى اللقاء ؟ .
جزاكم الله خيراً .
الحمد لله.
من الرائع أن ينتشرفي بيوت المسلمين الحب والمودة والألفة ، لأن هذا الحب والمودة
سيكون له الأثر الطيب على أفراد الأسرة ، ومن آيات الله العظيمة أن خلق المرأة من
الرجل ، ومن حكمة ذلك أن تكون سكناً للرجل ، وقد ذكر الله تعالى ذلك في آدم وحواء ،
وفي عموم الخلق ، قال تعالى : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ
وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ) الأعراف/من الآية189
، وهذا في آدم وحواء ، وفي عموم الخلق : قال تعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ
لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ) الروم/من
الآية21 ، وجعل الله تعالى بين الزوجين مودة ورحمة ، فقال – في تتمة
آية الروم - : ( وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) الروم/من الآية21 .
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله - :
قوله تعالى : وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا الآية .
ذكر في هذه الآية الكريمة أنه خلق حواء من آدم ليسكن إليها ، أي : ليألفها ويطمئن
بها ، وبين في موضع آخر أنه جعل أزواج ذريته كذلك ، وهو قوله : وَمِنْ آيَاتِهِ
أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ
بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [ الروم : 21 ] .
" أضواء البيان " ( 2 / 304 ، 305 ) .
وقال ابن كثير – رحمه الله - :
فلا ألفة بين رُوحين أعظم مما بين الزوجين .
" تفسير ابن كثير " ( 3 / 525 ) .
ولكن لا نريد الحب أن يكون " جنونيّاً " ! ـ كما يقول الناس ـ ؛ بل متعقلاً يضع
الأمور مواضعها ؛ كما روى زيد بن أسلم عن أبيه قال : قال لي عمر بن الخطاب : " يا
أسلم ! لا يكن حبك كَلَفا ، ولا يكن بغضك تلفا !!
قلت : وكيف ذلك ؟
قال : إذا أحببت فلا تَكْلف كما يكلف الصبي بالشيء يحبه ، وإذا أبغضت فلا تبغض بغضا
تحب أن يتلف صاحبك ويهلك " .
رواه عبد الرزاق في المصنف (20269) ، وإسناده صحيح .
وإنما نصح الخليفة الراشد بذلك لأن الكَلَف في الحب ( الحب الجنوني ) له آثاره
السيئة على المحِب وعلى المحَب ، فأما أثره على المحِب فهو :
أ. انشغال فكره بحبيبه ، مما يسبب له قلقاً وتوتراً ، فيضيع مع هذا الانشغال
الأوقات ، ويكون لآثاره الأمراض النفسية والبدنية .
ب. ومن آثار الحب الجنوني أنه يجعل هذا المحِب يتغاضى عن تقصير حبيبه في الواجبات ،
ويجعله يتغاضى عن فعله للمحرمات ، بل وإذا طَلب منه حبيبه المشاركة فيها : فإن
حبَّه الجنوني سيدفعه للمشاركة .
ج. ومن الآثار السيئة لهذا الحب أنه يستولي على مجامع قلبه ، بحيث يزاحم محبة الله
ورسوله التي هي مدار نجاته ؛ فضلا عن محبة من سوى ذلك من الأهل والولد !!
د. ومن آثاره السيئة أن هذا المحِب بجنون لا يستطيع تحمل صدمة غياب حبيبه ، ولا
مرضه ، فضلاً عن موته !
ومن آثار الحب الجنوني السيئة على المحَب :
أ. أنه قد يصيبه التوتر بسبب إلحاح المحب على رؤيته والجلوس معه ، وهذا قد يؤدي به
إلى الإخلال بوظيفته ، أو التقصير في المهمات التي ينبغي أن ينصرف قلبه وعزمه إليها
؛ من علم نافع أو عمل صالح .
ب. ومن آثاره السيئة عليه : أنه لن يجد هذا المحب ناصحاً وموجهاً له ، بل سيتغاضى
عن أخطائه وتقصيره . كما قيل : حبك الشيء يعمي ويصم !
ج. ومن آثاره السيئة عليه : أنه إن كان مستجيباً لمن يحبه : ضاعت أوقاته معه ، وإن
لم يفعل تسبب في حصول القلق له ، وهذا قد يؤدي به للنفرة عنه وبغضه في النهاية .
يقول شيخ الإسلام رحمه الله :
" .. فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة ، ولو كانت مباحة له ، يبقى قلبه أسيرا لها تحكم
فيه وتتصرف بما تريد ; وهو في الظاهر سيدها لأنه زوجها . وفي الحقيقة هو أسيرها
ومملوكها لا سيما إذا درت بفقره إليها ; وعشقه لها ; وأنه لا يعتاض عنها بغيرها ;
فإنها حينئذ تحكم فيه بحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور ; الذي لا يستطيع
الخلاص منه ، بل أعظم !! فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن ، واستعباد القلب أعظم من
استعباد البدن ؛ فإن من استعبد بدنه واسترق لا يبالي إذا كان قلبه مستريحا من ذلك
مطمئنا ، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص ؛ وأما إذا كان القلب الذي هو الملك رقيقا
مستعبدا متيما لغير الله ، فهذا هو الذل والأسر المحض والعبودية لما استعبد القلب
... فالحرية حرية القلب ، والعبودية عبودية القلب ؛ كما أن الغنى غنى النفس ؛ قال
النبي صلى الله عليه وسلم : ليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس ،
وهذا لعمري إذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة ؛ فأما من استعبد قلبه صورة محرمة :
امرأة أو صبيا ، فهذا هو العذاب الذي لا يدان فيه [ يعني : لا حيلة فيه ] ؛ وهؤلاء
من أعظم الناس عذابا وأقلهم ثوابا ؛ فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقا بها
مستعبدا لها اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد ، ولو سلم
من فعل الفاحشة الكبرى .. " انتهى " مجموع الفتاوى " (10/185-186) .
فاحرصي أن يكون حبك لزوجك حباً
معتدلاً ، لا يترتب عليه إخلال بواجب ، ولا تقصير فيما هو أولى وأعظم من محبة الله
ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم .
ونسأل الله تعالى أن يوفقك لما يحب ويرضى ، وأن يديم عليكما الألفة والمودة والرحمة
والحب ، وأن يرزقكما الذرية الصالحة .
والله الموفق