الحمد لله.
الواقع أن ما ذكرته من تغير الفتوى بشأن التصوير ، ربما لا يكون دقيقا ، فنحن نحتاج إلى أن نفرق بين أمرين في موضوع التصوير :
الأمر الأول : حكم التصوير ، ونعني به هنا تصوير ذوات الأرواح ، فهذا هو محل البحث والنظر ، ونعني به أيضا الصور غير المجسمة.
وقد دلت السنة الصحيحة على تحريم هذا النوع من الصور ، سواء كان في لوحة ، أو ورقة ، أو ثوب ، أو حائط ، لما فيه من مضاهاة خلق الله .
قال النووي رحمه الله :
" قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ تَصْوِيرُ صُورَةِ الْحَيَوَانِ حَرَامٌ شَدِيدُ التَّحْرِيمِ وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ لِأَنَّهُ مُتَوَعَّدٌ عَلَيْهِ بِهَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ الْمَذْكُورِ فِي الْأَحَادِيثِ ، وَسَوَاءٌ صَنَعَهُ بِمَا يُمْتَهَنُ أَوْ بِغَيْرِهِ : فَصَنْعَتُهُ حَرَامٌ بِكُلِّ حَالٍ ، لِأَنَّ فِيهِ مُضَاهَاةً لِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَسَوَاءٌ مَا كَانَ فى ثوب أو بساط أودرهم أَوْ دِينَارٍ أَوْ فَلْسٍ أَوْ إِنَاءٍ أَوْ حَائِطٍ أَوْ غَيْرِهَا .
وَأَمَّا تَصْوِيرُ صُورَةِ الشَّجَرِ وَرِحَالِ الْإِبِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ صُورَةُ حَيَوَانٍ فَلَيْسَ بِحِرَامٍ ، هَذَا حُكْمُ نَفْسِ التَّصْوِيرِ ...
ولا فرق في هذا كله بين ماله ظل ومالا ظل لَهُ .
هَذَا تَلْخِيصُ مَذْهَبِنَا فِي الْمَسْأَلَةِ ، وَبِمَعْنَاهُ قَالَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ .
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ إِنَّمَا يَنْهَى عَمَّا كَانَ له ظل ، ولا بأس بِالصُّوَرِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا ظِلٌّ . وَهَذَا مَذْهَبٌ بَاطِلٌ فَإِنَّ السِّتْرَ الَّذِي أَنْكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّورَةَ فِيهِ لَا يَشُكُّ أَحَدٌ أَنَّهُ مَذْمُومٌ ، وَلَيْسَ لِصُورَتِهِ ظِلٌّ مَعَ بَاقِي الْأَحَادِيثِ الْمُطْلَقَةِ فِي كُلِّ صُورَةٍ . وَقَالَ الزُّهْرِيُّ النَّهْيُ فِي الصُّورَةِ عَلَى الْعُمُومِ ..." انتهى من "شرح مسلم" للنووي (14/81).
وقد سبق ذكر الأدلة على تحريم التصوير ، وبعض نصوص أهل العلم على ذلك في أجوبة كثيرة ، فراجع جواب السؤال رقم (7222).
وهذا أمر لا نعلم أن الفتوى تغيرت بشأنه ، أو أن من كان يرى أن التصوير حرام ، عاد وقال بإباحته ، أو أن غالب رأي المفتين كان على التحريم ، ثم أصبح الآن على الإباحة ، وإذا قدر أن شيئا من ذلك التغيير قد حصل : فهو قليل جدا ، أو شاذ نادر ، لا يقاس عليه .
الأمر الثاني : هل ينطبق حكم التصوير على أنواع معينة من الصور ؛ كالصورة الفوتوغرافية ، مثلا ؟ وإذا كان يشملها : فهل هذا التحريم خاص بالصورة الكاملة ، أو يشمل الصورة النصفية أيضا ، ونحو ذلك من المسائل التي محل نظر الفقيه والمفتي فيها هو النظر في انطباق الحكم السابق ، على النازلة المعينة.
وهذا هو الذي اختلف أهل العلم فيه اختلافا معتبرا مشهورا ؛ فذهب بعضهم إلى أن التصوير الفوتوغرافي يدخل في التصوير المحرم ، لأنه تصوير ، ولأن ما ينتجه هو (صورة) ، فتدخل في حكم الصور التي ورد فيها النص .
وذهب بعض أهل العلم إلى أن علة تحريم التصوير : هي مضاهاة خلق الله ، وهذا غير موجود في التصوير الفوتوغرافي ؛ إذ هو مجرد حبس ظل الشخص ، فأبيح ، كما لو كان ينظر في مرآة أو نحوها .
وليس هنا محل تحرير ذلك ، إنما المراد بيان أن هناك فرقا بين الاختلاف في الحكم ، والاختلاف في تحقيق مناط الحكم في الواقعة المعينة .
وقد سبق بيان حكم التصوير الفوتوغرافي في أجوبة عديدة في الموقع ، فيمكنك مراجعة الأسئلة التي تحمل رقم (13633) ورقم (10668) ورقم (7918) .
وحينئذ ؛ فليس من الغريب أن يتغير اجتهاد العالم أو المفتي في مثل هذه النوازل ؛ فقد يبني اجتهاده في وقت ما على أن هذا التصوير كان يتطلب تصرفا بشريا في الصورة بوجه ما ، وهذا هو نفس عمل المصور ، فلأجل ذلك أفتى بتحريمه ، ثم تغير الأمر وتطورت الأجهزة ، ولم يعد هناك حاجة إلى التدخل البشري .
بل إن الأمر أظهر من هذا المثال التقريبي ؛ فتغير اجتهاد العالم من وقت إلى وقت آخر ، وفي نفس المسألة ليس أمرا جديدا ، بل هو معروف ومقرر . ومذهبا الشافعي : الجديد والقديم شاهد على ذلك ، والروايات عن الإمام أحمد وغيره في المسألة الواحدة معروفة .
والأمثلة على ذلك معروفة مشهورة ، وليس العبرة بالقال والقيل ، وإنما العبرة في كل أمر بما وافقه الدليل .
نسأل الله أن يوفقنا جميعا لما يحبه ويرضاه من القول والعمل .
والله أعلم .
تعليق