الجمعة 17 شوّال 1445 - 26 ابريل 2024
العربية

هل هناك حالات يكون الإلحاح فى الدعاء مكروها فيها ؟

251545

تاريخ النشر : 21-10-2016

المشاهدات : 16924

السؤال


قابلنى نص لابن الجوزي ، ومما لفت انتباهى فيه عن الدعاء أنه اذا لم ينل المرء دعاءه لا يلح! والحقيقة : أن ذلك عكس ما يدعو به جميع الدعاة من أثر الإلحاح في الدعاء ، وفضله في الاستجابة ، وأنه دليل على تمام العبودية . فأنا فى حيرة من المعنى المقصود لهذا النص . وثانيا: عندي دعوة عارضة ملحة هذه الفترة ، لظروف ألمت بي فقد توفي خطيبي ، وأهلي يمنعوني من زيارة أهله ، والحقيقة: أني في حاجة ماسة لهم ، حتى إن الحزن يعتصر قلبى ، ولا أجد سبيلا لإفراغ جزءً من هذا الحزن أو الفضفضة والتسلية إلا مع أمه ، وأنا ألح فى الدعاء إلحاحا شديدا بأن يلين قلب أهلي ، ويوافقوا على ذهابي لها ، وأرى عنادهم يتزايد يوما بعد يوم فأزيد إلحاحي . أنا أعلم أنها دعوة قد ترون فيها شيئا من السطحية ، وأنها لا تستحق الإلحاح ، لكن ربى أعلم بالنفوس ، وما بي من حزن عظيم دفعنى لهذا، وأنا ـ الحمد لله ـ على قدر من الالتزام، ملتزمة بالاستغفار والدعاء وتحرى أوقات وأسباب الاستجابة .

الجواب

الحمد لله.


أولاً:
إذا تم عقد الزواج بينكما فإنه يترتب على ذلك بعض الأحكام منها : أن والده يصير عليك محرما؛ وقد سبق بيان ذلك في جواب السؤال رقم : ( 40251 )، ومنها : أن عليك عدة الوفاة، وهذه العدة تمنعك من الخروج من المنزل طوال فترتها ، كما سبق بيانه في جواب السؤال رقم :( 105462 ) وذلك أن مصطلح " الخطوبة " أصبح يطلق في كثير من الأمصار على فترة ما قبل الدخول ، حتى ولو كان قد حدث فيها عقد شرعي .

وإذا لم يحصل عقد شرعي بينكما ، فلا تترتب تلك الأحكام ، وليس عليك عدة وفاة بل هو أجنبي عنك ، لا يجوز الإحداد عليه أكثر من ثلاثة أيام ، ويكون والده عليك أجنبيا .

ثانياً:
كل حاجة مباحة يريدها المسلم ، ويدعو الله ، ويلح عليه لتحقيقها لا يصح أن توصف بأنها سطحية ، فقد أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بأن نسأل الله تعالى كل شيء ، كبيرا كان أو صغيرا .

وما تذكرينه من حاجتك لزيارة أهل خطيبك ـ رحمه الله ـ للتنفيس عنك وعن أمه : هي حاجة جليلة معتبرة ، تستحق الدعاء والإلحاح ، بأن يلين الله تعالى قلب أهلك للموافقة عليها، حتى لو كان دعاؤك هذا في صلاتك المفروضة أو المستحبة .
قال ابن الملقن ـ رحمه الله ـ :
" وجميع أبواب الاستعاذة - ما سلف وما يأتي - تدل آثارها على أنه ينبغي سؤال الله ، والرغبة إليه في كل ما ينزل بالمرء من حاجاته، وأن يعيِّن كل ما يدعو به ؛ ففي ذلك إطالة الرغبة إلى الله ، والتضرع إليه ، وذلك طاعة لله ...
وقد روى ثابت البناني عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( ليسأل أحدكم ربه حاجاته كلها، حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع ) ؛ ليستشعر العبد الافتقار إلى ربه في كل أمر، وإن دق، ولا يستحي من سؤاله ذلك ".
انتهى ، من " التوضيح لشرح الجامع الصحيح " (29/ 308،309) .

والحديث المذكور : فيه ضعف في إسناده ، وصح مثله عن عائشة رضي الله عنها من قولها بلفظ " سَلُوا اللَّهَ كُلَّ شَيءٍ حَتَّى الشِّسعَ ، فَإِنَّ اللَّهَ إِن لَمْ يُيَسِّرهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ " .

وقد روى مسلم - (2577) - من حديث أبي ذر القدسي ( يا عِبادي لَوْ أنَّ أَوَّلَكُم وآخِرَكُم وإنْسَكُمْ وجنَّكم قاموا في صَعيدٍ واحدٍ فسألوني فأعطيت كل إنسانٍ مسألته، ما نَقَصَ ذلك مِمَّا عِندي إلاَّ كَما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذا أُدْخِلَ البَحرَ ) .
قال ابن رجب الحنبلي ـ رحمه الله ـ :
" فإنَّ كلَّ ما يحتاج العبد إليه إذا سأله من الله فقد أظهرَ حاجتَه فيه، وافتقاره إلى الله، وذلك يحبُّه الله ، وكان بعضُ السَّلف يستحيي من الله أنْ يسأله شيئاً من مصالح الدنيا، والاقتداءُ بالسُّنَّة أولى.
وفي الحديث دليلٌ على أنَّ اللهَ يحبُّ أنْ يسأله العبادُ جميعَ مصالح دينهم ودنياهم، مِنَ الطَّعام والشراب والكسوة وغير ذلك ، كما يسألونه الهداية والمغفرة، ... .
وكان بعضُ السَّلف يسأل الله في صلاته كلَّ حوائجه حتّى ملحَ عجينه وعلفَ شاته .
انتهى من " جامع العلوم والحكم " (2/ 662) .
وينظر جواب السؤال رقم : (98196) .

ثالثاً:
الإلحاح في الدعاء من محاسن فعل العبد الداعي ، وقد سبق بيان فضل ذلك في جواب السؤال رقم : ( 126946 ) - وفيه كلام ابن الجوزي موضع الإشكال - .
وأما الإشكال الذي ذكرته عن ابن الجوزي رحمه الله فهو في محله، ويحتاج - بالتأكيد - لرفع هذا الإشكال، ونص كلامه :
" من الجهل أن يخفى على الإنسان مراد التكليف، فإنه موضوع على عكس الأغراض، فينبغي للعاقل أن يأنس بانعكاس الأغراض، فإن دعا وسأل بلوغ غرض، تعبد الله بالدعاء: فإن أعطي مراده شكر، وإن لم ينل مراده ، فلا ينبغي أن يلح في الطلب؛ لأن الدنيا ليست لبلوغ الأغراض، وليقل لنفسه ( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) البقرة/ 216 " .
انتهى من " صيد الخاطر " (ص 399) .
والذي ظهر لنا في توجيه كلام ابن الجوزي - رحمه الله - أمور :
1. أن يلح في الدعاء ، ويتعلق بحصول مطلوبه ، من غير أن تتعلق همته بتحقيق مقام العبودية ، وتحصيل أبواب الإجابة . وقد شرح ذلك المعنى ، وأوضحه في موضع آخر من نفس الكتاب ، قال :
" إذا وقعت في محنة يصعب الخلاص منها؛ فليس لك إلا الدعاء، واللجأ إلى الله، بعد أن تقدم التوبة من الذنوب، فإن الزلل يوجب العقوبة، فإذا زال الزلل بالتوبة من الذنوب، ارتفع السبب.
فإذا تبت ودعوت، ولم تر للإجابة أثرًا، فتفقد أمرك ، فربما كانت التوبة ما صحت، فصححها، ثم ادع، ولا تمل من الدعاء، فربما كانت المصلحة في تأخير الإجابة، وربما لم تكن المصلحة في الإجابة، فأنت تثاب، وتجاب إلى منافعك، ومن منافعك ألا تعطى ما طلبت، بل تعوض غيره. فإذا جاء إبليس، فقال: كم تدعوه ولا ترى إجابة! فقل: أنا أتعبد بالدعاء، وأنا موقن أن الجواب حاصل، غير أنه ربما كان تأخيره لبعض المصالح على مناسب، ولو لم يحصل، حصل التعبد والذل.
فإياك أن تسأل شيئًا إلا وتقرنه بسؤال الخيرة، فرب مطلوب من الدنيا ، كان حصوله سببًا للهلاك، وإذا كنت قد أمرت بالمشاورة في أمور الدنيا لجليسك، ليبين لك في بعض الآراء ما يعجز رأيك، وترى أن ما وقع لك لا يصلح، فكيف لا تسأل الخير ربك، وهو أعلم بالمصالح؟! والاستخارة من حسن المشاورة." انتهى من "صيد الخاطر" (352) .

2. وقد يكون قصْد ابن الجوزي - رحمه الله - من منع الإلحاح : إذا كان إلحاحه في دعائه بعد فوات مطلوبه، فتكون الصفقة ذهبت لغيره، والمرأة تزوجت شخصا آخر، وغير ذلك مما يشبهه؛ ويدل عليه : قوله - في الجملة نفسها - : " وإن لم ينل مراده فلا ينبغي أن يلح ... " وكأنه يلمح هنا لمخالفته في دعائه لتقدير الله وحكمته .
3. ويدخل في المنع من الإلحاح: إذا كان الإلحاح في الدعاء في فضول المعيشة وليس مهمها، مع الغفلة عن فعل ذلك في أموره الدينية كصلاح قلبه والتوبة من الذنوب وغيرها مما يشبهها .
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ :
"الْعجب مِمَّن تعرض لَهُ حَاجَة فَيصْرف رغبته وهمته فِيهَا إِلَى الله ليقضيها لَهُ ، وَلَا يتَصَدَّى للسؤال لحياة قلبه من موت الْجَهْل والإعراض ، وشفائه من دَاء الشَّهَوَات والشبهات ، وَلَكِن إِذا مَاتَ الْقلب لم يشْعر بمعصيته " انتهى من " الفوائد " ( ص 112 ) .
وقد قال ابن الجوزي ـ نفسه ـ رحمه الله ـ :
" ثم العجب من سؤالاتك ! فإنك لا تكاد تسأل مهمًّا من الدنيا، بل فضول العيش، ولا تسأل صلاح القلب والدين مثل ما تسأل صلاح الدنيا.
فاعتقل أمرك؛ فإنك من الانبساط والغفلة على شفا جُرُفٍ، وليكن حزنك على زلاتك شاغلًا لك عن مراداتك " انتهى من " صيد الخاطر " ( ص 150 ) .
هذا ما ظهر لنا في توجيه كلام ابن الجوزي - رحمه الله - والذي حملنا على عدم تخطئته وإحسان الظن به أن مثل هذه المسألة لا تخفى على من هو أقل منه علما فكيف تخفى على مثله وهو العالِم الواعظ .
وقد ذكر ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ ، فصلا في أوائل كتابه ـ برقم (38) ـ ذكر فيه بعض الحكم من منع الإجابة للداعي ، ودفع الوساوس في ذلك ، ثم ختمه بقوله :
" وإذا تدبرت هذه الأشياء، تشاغلت بما هو أنفع لك من حصول ما فاتك، من رفع خلل، أو اعتذار من زلل، أو وقوف على الباب إلى رب الأرباب." انتهى من "صيد الخاطر" (84) .

والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب