الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 - 22 نوفمبر 2024
العربية

مقامات ثلاثة تحكم علاقة الحديث الضعيف بالسير والمغازي

255686

تاريخ النشر : 15-02-2017

المشاهدات : 28723

السؤال


يقال : إن العلماء يتساهلون في أحاديث السير ونحوها ، فما رأيكم في كتاب: "ما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية"؛ فإنه قد بيَّن فيه ضعف كثير من القصص والوقائع المشهورة ، التي يتناقلها الناس، بل حتى العلماء منهم؟

الجواب

الحمد لله.


لا بد أن نفرق في حديثنا عن الأحاديث الضعيفة في جناب السيرة النبوية المطهرة بين مقامات ثلاثة:
المقام الأول:
أن علماء الحديث لا يختلفون في أن أبواب السير والمغازي من الأبواب التي يجوز "رواية" الأحاديث الضعيفة فيها، و"حكايتها"، و"نقلها" في الكتب والمجالس وحلق العلم والدرس، لا على سبيل الجزم بنسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما على سبيل الحكاية والنقل والرواية.
يقول عباس الدُّوري:
"سمعت أحمد بن حنبل - وسئل وهو على باب أبي النضر هاشم بن القاسم فقيل له: يا أبا عبد الله! ما تقول في موسى بن عُبيدة الربَذَي، وفي محمد بن إسحاق -؟
فقال: أما محمد بن إسحاق فهو رجل تكتب عنه هذه الأحاديث - كأنه يعني المغازي ونحوها - وأما موسى بن عبيدة فلم يكن به بأس، ولكنه حدث بأحاديث مناكير عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فأما إذا جاء الحلال والحرام أردنا قوما هكذا. وقبض أبو الفضل على أصابع يديه الأربع من كل يد، ولم يضم الإبهام، وأرانا أبو الفضل يديه وأرانا أبو العباس" .
انتهى من "تاريخ ابن معين رواية الدوري" (3/60) .
ويقول الإمام الحاكم رحمه الله:
"وأنا بمشيئة الله أُجري الأخبار التي سقطت على الشيخين في كتاب الدعوات على مذهب أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي في قبولها، فإني سمعت أبا زكريا يحيى بن محمد العنبري، يقول: سمعت أبا الحسن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، يقول: كان أبي يحكي، عن عبد الرحمن بن مهدي، يقول:
إذا روينا، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والأحكام : شددنا في الأسانيد، وانتقدنا الرجال، وإذا روينا في فضائل الأعمال ، والثواب والعقاب، والمباحات والدعوات : تساهلنا في الأسانيد" انتهى من "المستدرك على الصحيحين" (1/ 666) .
وقد عقد الخطيب البغدادي في "الكفاية في علم الرواية" (ص: 133) بابا بعنوان: "باب التشدد في أحاديث الأحكام، والتجوز في فضائل الأعمال. " .
قال : " قد ورد عن غير واحد من السلف أنه لا يجوز حمل الأحاديث المتعلقة بالتحليل والتحريم إلا عمن كان بريئا من التهمة ، بعيدا من الظِّنَّة ، وأما أحاديث الترغيب والمواعظ ونحو ذلك : فإنه يجوز كَتْبُها عن سائر المشايخ".
وأورد فيه بأسانيده:
سمعت سفيان الثوري، يقول: لا تأخذوا هذا العلم في الحلال والحرام إلا من الرؤساء المشهورين بالعلم، الذين يعرفون الزيادة والنقصان، ولا بأس بما سوى ذلك من المشايخ.
قال: سمعت ابن عيينة، يقول: لا تسمعوا مِن بَقِيَّة ما كان في سُنة، واسمعوا منه ما كان في ثواب وغيره.
يقول: سمعت النوفلي يعني أبا عبد الله، يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: إذا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشددنا في الأسانيد، وإذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل الأعمال ، وما لا يضع حكما ولا يرفعه : تساهلنا في الأسانيد.
قال: سمعت أبا زكريا العنبري، يقول: الخبر إذا ورد لم يحرم حلالا، ولم يحل حراما، ولم يوجب حكما، وكان في ترغيب أو ترهيب، أو تشديد أو ترخيص : وجب الإغماض عنه ، والتساهل في رواته" انتهى باختصار من "الكفاية" .
ومن هنا امتلأت كتب العلماء والمحدثين في القديم والحديث بمثل هذه الروايات، التي لا يجدون فيها شذوذا أو نكارة تستوجب الرد والحذر، ولكنهم في الوقت نفسه لم يكونوا يوردونها على سبيل جزم النسبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما لفضائل العمل، أو استرسال الأخبار، أو كل ما لا يترتب عليه تشريع أو اعتقاد.
المقام الثاني:
أن ما سبق من التساهل في أسانيد السير والمغازي لا يعني إطلاقا أننا ننسب للنبي صلى الله عليه وسلم – على وجه الجزم - كلاما لم يثبت بالأسانيد الصحيحة أو الحسنة، سواء في الأحكام أو العقائد أو الفضائل أو السير والمغازي أو غيرها من أبواب العلم والدين، فالتساهل في المغازي والسير هو تساهل على مستوى "النقل" و "البحث العلمي" فحسب، وليس على مستوى جزم النسبة للنبي صلى الله عليه وسلم.
المقام الثالث:
أما ما ورد عن طريق الكذابين والوضاعين وسُراق الحديث، وما اشتمل على نكارة أو شذوذ لا يصدر مثله عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمثله لا يروى إلا على سبيل التحذير منه، ولا يحكى إلا على وجه التنبيه على غلطه، كي لا يُتخذ حجة للطعن على الدين، ولا يكون سببا في إفساد تصورات الناس الإجمالية عن أبواب الفضائل والسير والمغازي.
ومن هنا يمكننا تفصيل الحديث عن كتاب محمد عبد الله العوشن، بعنوان: "ما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية"، ومثله جميع الكتب التي تعتني بالسيرة النبوية تصحيحا وتضعيفا، كلها يشملها التأصيل الحديثي السابق:
فما كان في كتاب العوشن والباحثين الأفاضل الآخرين من مقاصد تسعى لإلغاء الروايات الضعيفة من كتب السيرة، بالكلية ، ومنع التحديث بها، وترك كتابتها، وعدم الاستئناس بالمناسب منها، كما يقول المؤلف العوشن في مقدمته "والهدف من ذلك تنقية السيرة من هذه الأخبار التي لم تثبت" انتهى من "ما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية" (ص3)- دار طيبة.
فهي مقاصد غير محررة ، نراها محل بحث ونظر، ولا تتسق مع مناهج المحدثين الأوائل، الذين نقلوا لنا هذه الروايات في كتبهم، واستأنسوا بها، وساقوها في حديثهم مساق الإحاطة والعناية.
وهكذا فالعلم باب واسع، لا يجوز لأحد حصره فيما يراه – برأيه – صحيحا، ويسوي بين الضعيف والمكذوب، فيتعامل معها بوزان واحد، ولا يفرق بين درجات الثبوت ودركات عدم الثبوت. وهو المزلق الذي وقع فيه كتاب العوشن.
أما ما يجده القارئ في هذا الكتاب وغيره من مقاصد موضوعية، تبحث في صحة "النسبة"، أي تركز بحثها في تحرير صدور ذلك القول أو الفعل المعين عن النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، ولا تمانع الأصل الوجودي لهذه المرويات في كتب السيرة، بل تفرق بين الضعيف والموضوع، وتنتهج نهج العلماء الأوائل في "كتابة" الضعيف في السير والمغازي، فهذه مقاصد حسنة، عمل بها الأولون، ولا نراها بعيدة عن قواعد علوم الحديث ومناهج المحدثين.
خاصة حين تركز البحث في المكذوب من روايات السيرة، أو المنكرات التي تتناقض مع حقائق التاريخ وصحيح الأحاديث، وصريح القرآن الكريم، فمثل هذه المرويات حَرِيَّة أن تنتقد، وتتخصص فيها الدراسات والبحوث.
يقول الدكتور أكرم ضياء العمري:
"ينبغي ملاحظة منهج المحدثين عند التعامل مع الرواية التاريخية، فهم يتساهلون في رواية الأخبار التاريخية، كما نلاحظ عند ثقات المؤرخين، مثل محمد بن إسحاق، وخليفة بن خياط، والطبري، حيث يُكثرون مِن الأخبار المرسلة والمنقطعة. كما أن الطبري يكثر النقل عن رواة في غاية الضعف مثل هشام بن الكلبي، وسيف بن عمر التميمي، ونصر بن مزاحم، وغيرهم.
ولا شك أن عدم تمحيص المؤرخين للأخبار كما فعلوا في الحديث، واكتفاءهم بإلقاء العهدة على الرواة المذكورين في أسانيد الروايات ألقى عبئاً كبيراً على "المؤرخ المعاصر المسلم" لأنه يحتاج إلى بذل جهد ضخم للوصول إلى الروايات الصحيحة بعد فهم وتطبيق منهج المحدثين، وهو أمر لم يعد سهلاً ميسوراً كما كان بالنسبة لخليفة بن خياط، أو الطبري، بسبب تضلعهم في مناهج المحدثين، وطريق سبرهم للروايات وتمييزها، وعلى أية حال فنحن لا نبخس قدامى المؤرخين حقهم وفضلهم، فقد جمعوا لنا المادة الأولية بالأسانيد التي تمكننا من الحكم عليها ولو بعد جهد وعناء.
والآن ماذا بعد سبر الروايات وتمييز صحيحها من سقيمها؟
المطلوب اعتماد الروايات الصحيحة وتقديمها، ثم الحسنة، ثم ما يعتضد من الضعيف لبناء الصورة التاريخية لأحداث المجتمع الإسلامي في عصر صدر الإسلام ....
وعند التعارض يقدم الأقوى دائماً ...
أما الروايات الضعيفة التي لا تقوى أو تعتضد فيمكن الإفادة منها في إكمال الفراغ الذي لا تسده الروايات الصحيحة والحسنة، على ألا تتعلق بجانب عقدي أو شرعي، لأن القاعدة "التشدد فيما يتعلق بالعقيدة أو الشريعة" .
ولا يخفى أن عصر السيرة النبوية والخلافة الراشدة ملئ بالسوابق الفقهية، والخلفاء الراشدون كانوا يجتهدون في تسيير دفة الحياة وفق تعاليم الإسلام، فهم موضع اقتداء ومتابعة فيما استنبطوا من أحكام ونظم لأقضية استجدت بعد توسع الدولة الإسلامية على أثر الفتوح.
أما الروايات التاريخية المتعلقة بالعمران، كتخطيط المدن، وريازة الأبنية، وشق الترع ... أو المتعلقة بوصف ميادين القتال ، وأخبار المجاهدين الدالة على شجاعتهم وتضحيتهم : فلا بأس من التساهل فيها.
وقد تعقب ابن حجر العسقلاني إنكار بعض النقاد لخبر غريب فقال: "في طرق هذه القصة القوي والضعيف، ولا سبيل إلى رد الجميع، فإنه ينادي على من أطلقه بقلة الاطلاع، والإقدام على رد مالا يعلمه، لكن الأولى أن ينظر إلى ما اختلفت فيه بالزيادة والنقص، فيؤخذ بما اجتمعت عليه ، ويؤخذ من المختلف ما قوي، ويطرح ما ضعف وما اضطرب، فإن الاضطراب إذا بَعُد به الجمع بين المختلف، ولم يترجح شيء منه : التحق بالضعيف المردود" [العُجاب]
لا شك أن اشتراط الصحة الحديثية في كل رواية تاريخية نريد قبولها : فيه تعسف، لأن ما تنطبق عليه هذه الشروط لا يكفي لتغطية العصور المختلفة للتاريخ الإسلامي، مما يولد فجوات في تاريخنا، وإذا قارنا ذلك بتواريخ العالم ، فإنها كثيراً ما تعتمد على روايات مفردة أو مؤرخين مجهولين، بالإضافة إلى ذلك فهي مليئة بالفجوات ..
لذلك يكفي في الفترات اللاحقة : التوثق من عدالة المؤرخ ، وضبطه لقبول ما يسجله، مع استخدام قواعد النقد الحديثي في الترجيح عند التعارض بين المؤرخين" انتهى باختصار من " السيرة النبوية الصحيحة محاولة لتطبيق قواعد المحدثين في نقد روايات السيرة النبوية" (1/ 39-45)
والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الاسلام سؤال وجواب