الحمد لله.
إذا لم ترض الزوجة بغياب زوجها أكثر من ستة أشهر رفعت أمرها إلى القاضي ليقوم بمراسلة زوجها وإلزامه بالعودة ، فإن لم يرجع حكم القاضي بما يراه من الطلاق أو الفسخ .
سواء كان سفر الزوج وغيابه بعذر كحاجته إلى المال وعدم وجود عمل له في بلده ، أو كان لغير عذر . بل حبّاً في المال – كما ذكرت في سؤالك .
ولكن الفرق بين حال العذر وعدمه : أن الزوج في حال العذر لا يلزمه الرجوع ، ولا يأثم إذا لم يرجع .
أما في حال عدم العذر فيجب عليه العودة ، ويأثم إذا لم يرجع .
وفي الحالتين للمرأة طلب الطلاق ، دفعاً للضرر الواقع عليها .
ولا يجوز للزوج أن يمسك امرأته مع حصول الضرر عليها . قال الله تعالى : ( وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا ) البقرة/231 ، وقال تعالى : ( فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ) الطلاق/2 .
قال في "كشاف القناع" (5/193) : " ولو سافر الزوج عنها لعذر وحاجةٍ سقط حقها من القسم والوطء وإن طال سفره ، للعذر ... وإن لم يكن للمسافر عذر مانع من الرجوع وغاب أكثر من ستة أشهر فطلبت قدومه لزمه ذلك ، لما روى أبو حفص بإسناده عن يزيد بن أسلم قال : بينا عمر بن الخطاب يحرس المدينة فمر بامرأة وهي تقول :
تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرقني أن لا خليل ألاعبه
فوالله لولا خشية الله والحيا لحرك من هذا السرير جوانبه
فسأل عنها فقيل له : فلانة زوجها غائب في سبيل الله ، فأرسل إليها امرأة تكون معها ، وبعث إلى زوجها فأقفله (أي أرجعه) ثم دخل على حفصة فقال : بنية كم تصبر المرأة عن زوجها ؟ فقالت : سبحان الله ! مثلك يسأل مثلي عن هذا ؟ فقال : لولا أني أريد النظر للمسلمين ما سألتك. فقالت : خمسة أشهر ستة أشهر ، فوقّت للناس في مغازيهم ستة أشهر ، يسيرون شهرا ، ويقيمون أربعة أشهر ، ويرجعون في شهر .
ومحل لزوم قدومه إن لم يكن له عذر في سفره كطلب علم أو كان في غزو أو حج واجبين أو في طلب رزقٍ يحتاج إليه فلا يلزمه القدوم , لأن صاحب العذر يعذر من أجل عذره ، فيكتب إليه الحاكم ليقدُم . فإن أبى أن يقدم من غير عذرٍ بعد مراسلة الحاكم إليه فسخ الحاكم نكاحه لأنه ترك حقا عليه تتضرر به المرأة " انتهى بتصرف .
وفي "الموسوعة الفقهية" (29/63): " فإذا غاب الزوج عن زوجته مدة بغير عذر , كان لها طلب التفريق منه , فإذا كان تركه بعذر لم يكن لها ذلك [هذا مذهب الحنابلة].
أما المالكية , فقد ذهبوا إلى أن الرجل إذا غاب عن زوجته مدة , كان لها طلب التفريق منه , سواء أكان سفره هذا لعذر أم لغير عذر , لأن حقها في الوطء واجب " انتهى بتصرف .
وسئل الشيخ ابن جبرين حفظه الله : أنا شاب متغرب ومتزوج والحمد لله ، لكن البلد التي أعمل بها لا تسمح أنظمتها بقدوم الزوجة إلا لبعض الوظائف والرتب ، فما حكم الدين الحنيف في ذلك حيث أن الإجازة تكون بعد كل سنة أو 14 شهر بالضبط ؟
فأجاب : " قد حدد بعض الصحابة غيبة الزوج بأربعة أشهر وبعضهم بنصف سنة ولكن ذلك بعد طلب الزوجة قدوم زوجها ، فإذا مضى عليه نصف سنة وطلبت قدومه وتمكّن لزمه ذلك ، فإن امتنع فلها الرفع إلى القاضي ليفسخ النكاح ، فأما إن سمحت له زوجته بالبقاء ولو طالت المدة وزادت عن السنة أو السنتين فلا بأس بذلك فإن الحق لها وقد أسقطته فليس لها طلب الفسخ ما دامت قد رضيت بغيابه ، وما دام قد أمّن لها رزقها وكسوتها وما تحتاجه، والله ولي التوفيق " انتهى من "فتاوى إسلامية" (3/212).
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن رجل متزوج وله أبناء من زوجته يقول سافرت من وطني لأحسن وضعي وكانت فترة غيابي تقارب ثلاث سنوات مع العلم أني لم أقطع عن زوجتي المصاريف والمراسلة باستمرار فضيلة الشيخ هل لها في الشرع حق وما هو ؟ وهل علي إثم في هذا؟
فأجاب رحمه الله : " أقول إن المرأة لها حق على زوجها أن يستمتع بها وتستمتع به كما جرت به العادة ، وإذا غاب عنها لطلب العيش برضاها وكانت في مكان آمن لا يخشى عليها شيء فإن ذلك لا بأس به ، لأن الحق لها فمتى رضيت بإسقاطها مع كمال الأمن والطمأنينة فلا حرج في تغيبه لمدة ثلاث سنوات أو أقل أو أكثر ، أما إذا طالبت بحضوره فإن هذا يرجع إلى ما لديهم من القضاة يحكمون بما يرونه من شريعة الله عز وجل " انتهى من "فتاوى نور على الدرب".
والحاصل : أن غياب الزوج عن زوجته أكثر من ستة أشهر ، إن رضيت به زوجته ، وكان قد تركها في مكان آمن ، فلا إشكال ، وإن لم ترض بذلك ، فلها رفع أمرها للقضاء الشرعي ، ليُنظر في أمرها : هل يعذر زوجها أو يلزم بالعودة ، أو يفسخ النكاح .
وينبغي للزوج أن يدرك أثر غيابه على زوجته وأولاده ، وأن يؤثر صلاحهم ورعايتهم على جمع المال ، إن كان يجد كفايته في بلده ، فإن مصيبة الدين لا يجبرها شيء ، ولا يعوضها مال ولا متاع ، وكم من البيوت قد فسد شبابها وبناتها بسبب غياب الأب وسفره ، نسأل الله العافية .
ولهذا نوصيك بتقوى الله تعالى ، والحرص على أهلك وأولادك ، وبذل الوسع في توفير شيء من المال لتعود وتستقر في بلدك ، أو تحملهم إليك ، فإن للزوجة حقا ، وللأولاد حقا ، وأنت غدا مسئول أمام الله عن هذه الرعية .
نسأل الله لنا ولك التوفيق والسداد والرشاد .
والله أعلم .
تعليق