الحمد لله.
أولا :
التوجيه الشرعي في أمر اللباس يستحب للناس أن يتوسطوا ويعتدلوا فيه ، من غير إسراف ولا مخيلة ، ومن غير رداءة ولا رثاثة ، فالاعتدال مندوب في جميع الأمور ، ومنها اللباس الذي يقي الإنسان من الحر أو البرد ويتزين به للناس .
يقول الله عز وجل : ( يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) الأعراف/31
عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كُلُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ ) رواه النسائي (2559) وحسنه الألباني في "صحيح النسائي"
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : " كل ما شئت ، والبس ما شئت ، ما أخطأتك خصلتان : سرَف ومَخِيلة " انتهى .
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (5/171) .
وقد ورد في خصوص لباس الشهرة أحاديث منها حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ فِي الدُّنْيَا أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) . رواه أبو داود (4029) والنسائي في "السنن الكبرى" (5/460) وابن ماجه (3606) وأحمد في "المسند" (2/92) وغيرهم ، وحسنه الألباني والأرناؤوط .
فمن لبس ما فيه إسراف ظاهر – بالنسبة لمجتمعه - يوحي بالتكبر والخيلاء ، أو لبس الرديء الرث – بالنسبة لمجتمعه – يشعر بالزهادة والعبادة ، فقد تجاوز القصد والاعتدال وحاد عن السبيل .
يقول السرخسي في "المبسوط" (30/268) :
" والمراد أن لا يلبس نهاية ما يكون من الحسن والجودة في الثياب على وجه يشار إليه بالأصابع ، أو يلبس نهاية ما يكون من الثياب الخَلِقِ – القديم البالي - على وجه يشار إليه بالأصابع , فإن أحدهما يرجع إلى الإسراف والآخر يرجع إلى التقتير ، وخير الأمور أوسطها " انتهى .
وجاء في "الموسوعة الفقهية" (6/136) :
" ويكره لبس زي مُزْرٍ بِهِ لأنه من الشهرة , فَإِن قَصَدَ به الاختيال أو إظهارَ التواضع حَرُمَ لأنه رياء " انتهى .
والمقياس والميزان هو عادة الناس والمجتمع الذي يعيش فيه الإنسان ، فما كان بالنسبة لهم إسرافا ومخيلة أو كان رديئا رثا فهو مكروه مذموم ، وهو من الشهرة التي نهى عنها بعض السلف من الصحابة والتابعين :
قال ابن عمر رضي الله عنهما :
" من لبس رداء شهرة أو ثوب شهرة ألبسه الله نارا يوم القيامة "
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (6/81).
وقال سفيان الثوري :
( كانوا يكرهون الشهرتين : الثياب الجياد التي يشتهر فيها ويرفع الناس إليه فيها أبصارهم ، والثياب الرديئة التي يحتقر فيها ويستذل دينه )
ثانيا :
ومن الشهرة أيضا لباس ما تنكره عادات المجتمع وتقاليده ، وما يخالف في هيئته أو لونه ما يعرفونه ويألفونه ، مما يؤدي إلى حديث الناس عنه وغيبته والوقوع في نيته وقصده ، والمسلم مأمور بكف الغيبة عن نفسه ، أما اللباس الذي لا يستنكرونه ولا يستغربونه ، ويعتادون على رؤيته أو يأخذونه بالقبول ، فلا حرج من لبسه إذا كان ساترا للعورة .
عن عدي بن الفضل قال : قال لي أيوب :
" اُحْذُ نعلين على نحو حذو نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : ففعلت ، فلبسها أياما ثم تركها ، فقلت له في ذلك فقال : لم أر الناس يلبسونها " انتهى .
ابن أبي الدنيا في "التواضع والخمول" (رقم/62)
وعن الحصين قال : كان زبيد اليامي يلبس برنسا ، قال : فسمعت إبراهيم النخعي عابه عليه ، قال : فقلت له : إن الناس كانوا يلبسونها ، قال : أجل ! ولكن قد فني من كان يلبسها ، فإن لبسها أحد اليوم شهروه وأشاروا إليه بالاصابع .
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (6/81)
جاء في "الموسوعة الفقهية" (6/136-137) :
" لبس الألبسة التي تخالف عادات الناس مكروه لما فيه من شهرة , أي ما يشتهر به عند الناس ويشار إليه بالأصابع , لئلا يكون ذلك سببا إلى حملهم على غيبته , فيشاركهم في إثم الغيبة ، قال في لسان العرب : الشهرة ظهور الشيء في شُنعة حتى يشهره الناس " انتهى مختصرا .
ثالثا :
هناك عدة عوامل مؤثرة في الحكم على لباس الشهرة في زماننا هذا ، منها :
1- اتساع حال الناس اليوم ، وانفتاح الدنيا عليهم ، وانتشار المال بين أيديهم ، مما يسر عليهم شراء أفضل أنواع الثياب وأجودها .
2- التضخم الصناعي الهائل لأشكال وأنواع وألوان الألبسة اليوم ، فملايين المصانع تقدم يوميا آلاف التصاميم التي تنتشر في جميع أنحاء العالم اليوم ، فاعتاد الناس على لبس كل جديد ، وتقبل كل تغيير ، وقلت أنواع الألبسة التي ترفضها المجتمعات مطلقا .
3- الاختلاط بين الأجناس والأعراق ، وكثرة أسفار الناس وتنقلاتهم بين البلدان ، فلم تعد البلاد حكرا على أهلها ، بل صار البلد الواحد يحوي من أهل الشرق والغرب أعدادا كبيرة ، فكان له الأثر الظاهر أيضا في تقبل أنواع الألبسة الكثيرة .
4- ثم إن انتشار وسائل الإعلام بجميع أشكالها كان له الأثر الأكبر في تنويع ثقافات الألبسة ، وتناقلها بين الناس ، واستفادة بعضهم من بعض في هذا المجال .
كل ذلك أثَّر في فقه اللباس الشرعي ، فقد أحال الشرع الأمر إلى عرف الناس وعاداتهم ، وهي قد تأثرت اليوم بالعوامل الأربعة السابقة ، مما غير كثيرا من أحكام اللباس التي كانت في العصور السابقة .
فلا نرى أن لباس الرياضيين – إذا كان ساترا للعورة – أو لباس "البدلة الإفرنجية" ، أو خروج الرجل حاسر الرأس أو اللباس الخاص بأصحاب المهن والحرف المعينة ، كلباس الأطباء ولباس القضاة ولباس العمال ونحو ذلك : مِن الشهرة المذمومة ، فهي لا تحمل معنى الشهرة أصلا ، لا من حيث الإسراف والخيلاء ، ولا من حيث مخالفة المجتمع .
ولكن إذا وُجِدَ أَنْ لَبِسَهَا أحدٌ في مجتمعه الذي ما زال محافظا على تراثه وعادته ، ولم يتأثر بالعوامل الأربعة السابقة ، فكان مستغربا مستنكرا في قومه ، فهذا يكره في حقه ، ولا ينبغي له المشاقة والمخالفة ، فإن قصد بها الرياء والسمعة والتزكية ، أو إظهار الزهد أو إظهار الخيلاء والكبرياء أثم وحرم لباسه ذلك .
رابعا :
لا يخفى أن الشرط المهم الذي يقيد جميع الكلام السابق هو كون اللباس ساترا للعورة ، غير شفاف ولا واصف للون العورة ولا حجمها ، وليس فيه تشبهٌ بلباس الديانات الأخرى ولا تشبهٌ بالنساء أو أهل الفسق والمجون ، وليس حريرا بالنسبة للرجال ، فإن لم تنطبق فيه هذه الشروط فلا يجوز لبسه ولا بيعه ولا شراؤه .
وبالتأمل في كثير من لباس الرياضيين اليوم نجدها غير منضبطة بالستر الشرعي المطلوب ، فهي إما قصيرة تكشف أكثر الفخذ ، أو ضيقة تحجم العورة المغلظة ، فمثل هذه الألبسة لا يجوز لبسها بسبب مخالفتها الضوابط الشرعية .
وأما من أراد أن يلبس لباس المغنين والممثلين ، فقد تقحم باب سوء وفتنة وشر ، حين سعى نحو التشبه بأهل الفسق وأصحاب المعاصي والفساد ، وقد كان الواجب عليه كره المعصية وبغض شعارها ولباسها ، وتجنب أهلها والمفتونين بها ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ ) رواه أبو داود (4031)
فلا يجوز لبس ما يتميز به المغنون والممثلون ، والأصل أن يقلد المسلم قدوة الخير والعلم والفضل ، وأما قدوة المعصية فهي سبيل غضب الله عز وجل .
وانظر جواب السؤال رقم (36891)
والله أعلم .
تعليق