الحمد لله.
" مضت سنة الله تعالى في خلقة أن يربط المسبَّبات بأسبابها ، فربط إيجاده النسل بالجماع ، وإنباته الزرع ببذر الحبوب بالأرض وسقيها ، والإحراق بالنار ، والإغراق أو البلل بالماء إلى غير ذلك من الأسباب ومسبباتها ، قال تعالى : (وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) الأنبياء/30 ، وقال : (وَأَنزَلْنَا مِنْ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا) النبأ/14-16 ، وقال : (وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ) ق/9-11 ، وقال : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ) الأنفال/11 .
فهذه الآيات وأمثالها تضمنت أسباباً مادية ومسبَّبات معنوية ومادية ربط الله بينها وجعل الأولى سبباً في الثانية ، وكلاهما من خلق الله تعالى وبقضائه وقدره ، وهناك أسباب معنوية رتب الله عليها مسببات مادية ومعنوية ، وأنشأها بها ، وهو قادر على أن يخلق المسببات بدون أسبابها ، لكنه سبحانه جرت سنته أن يخلق هذه بتلك ، ويوجدها بها ؛ لحكمة يعلمها ، قال تعالى : (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) هود/1-3 ، وقال عن نبيه هود عليه الصلاة والسلام في دعوته لقومه : (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) هود/52 ، وقال عن نبيه نوح عليه الصلاة والسلام في دعوته قومه : (يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِي * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ َتعْلَمُونَ)نوح/2-4 ، وقال تعالى عن رسله عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم لأممهم : (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) إبراهيم/10 .
وقد ذكر سبحانه أن جماعة من المنافقين قالوا عن إخوانهم الذين قتلوا في غزوة أحد : (لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا) آل عمران/156، فأمر سبحانه رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : (لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) آل عمران/154 ، فبين أن قتل النفس مرهون بسببه ، وأن القتيل ميت بأجله لا قبله ولا بدون سبب ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من أحب أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه ) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي .
وعلى هذا ؛ فللرعاية الصحية دورها الفعال في صحة الأبدان ومكافحة الأمراض ، لكن بإذن الله وتقديره على ما سبق في علمه تعالى ، وبجعله تلك الرعاية سبباً لنتائجها وترتيبه مسبباتها عليه بقضائه وقدره حسبما سبق في علمه تعالى ، فتبين بهذا أن للأسباب دخلاً في مسبباتها من جهة جعل الله لها سبباً ، ومن جهة أمره سبحانه بالأخذ بها رجاء أن يرتب الله مسبباتها عليها ، لا من ذاتها ولا بتأثيرها استقلالاً في نتائجها ، بل بجعل الله لها مؤثرة ، ولو شاء الله أن يسلبها خواصها التي أودعها فيها لفعل ؛ كما وقع في سلبه النار خاصيتها ، فلم تحرق خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، بل كانت برداً وسلاماً عليه ، وفي سلبه خاصية السيولة والإغراق عن ماء البحر حتى مر موسى عليه الصلاة والسلام وقومه بأمن وسلام ، ورد تلك الخاصة إليه عند مرور فرعون ومن معه فأغرقهم ، والمسببات مرهونة بأسبابها قضاء وقدراً ، حتى الآجال طولاً وقصراً مع الرعاية والإهمال على مقتضى ما سبق في علمه تعالى ، فقول السائل : "إن الرعاية لا دخل لها في الآجال" ليس بصحيح على وجه الإطلاق ، فإن لها دخلاً في ذلك على ما تقدم بيانه .
وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم" انتهى .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... الشيخ عبد الرزاق عفيفي ... الشيخ عبد الله بن غديان ... الشيخ عبد الله بن قعود .
"فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" (24/385) .
تعليق