الحمد لله.
أولاً :
الزواج من هدي النبي صلى الله وسلم وسنَّته ، وقد أنكر نبيُّنا صلى الله عليه وسلم على مَن أراد ترك النكاح وقال : " أما أنا فأتزوج النساء ، مَن رغب عن سنَّتي فليس مني " – رواه البخاري ( 4776 ) ومسلم ( 1401 ) – والمقصود بـ " سنتي " أي : الهدي والطريقة ، لا أنه مستحب ؛ والصحيح أن الزواج تجري فيه الأحكام الخمسة ، فقد يكون حراماً ومكروهاً ومستحبا وواجبا ومباحاً ، ويصبح واجباً عند جمهور الفقهاء في حالة واحدة وهي إذا خاف الرجل أو المرأة من الزنا إذا لم يتزوجا ، فهنا يجب على كل من ملك القدرة المالية منهما على النكاح أن يتزوج ، أما إذا كان غير راغب في النكاح ، وكان قادراً على حفظ نفسه – رجلا كان أو امرأة - : فلا يجب في حقه الزواج عند جمهور الفقهاء ، بل هو مستحب في حقه ، ويكون حراماً إذا علم الزوج أنه لن يؤدي حقوق زوجته ولن يستطيع إعفافها ، وهكذا هو حكم الزوجة .
قال ابن قدامة :
والناس في النكاح على ثلاثة أضرب : منهم من يخاف على نفسه الوقوع في محظور إن ترك النكاح : فهذا يجب عليه النكاح في قول عامة الفقهاء ؛ لأنه يلزمه إعفاف نفسه ، وصونها عن الحرام ، وطريقه النكاح .
الثاني : من يستحب له ، وهو من له شهوة يأمن معها الوقوع في محظور : فهذا الاشتغال له به أولى من التخلي لنوافل العبادة ، وهو قول أصحاب الرأي ، وهو ظاهر قول الصحابة رضي الله عنهم ، وفعلهم ...
القسم الثالث : من لا شهوة له , إما لأنه لم يُخلق له شهوة كالعنين , أو كانت له شهوة فذهبت بكبر أو مرض ونحوه , ففيه وجهان ; أحدهما : يستحب له النكاح ; لعموم ما ذكرنا ، والثاني : التخلي له أفضل ; لأنه لا يحصل مصالح النكاح , ويمنع زوجته من التحصين بغيره , ويضر بها , ويحبسها على نفسه , ويعرض نفسه لواجبات وحقوق لعله لا يتمكن من القيام بها , ويشتغل عن العلم والعبادة بما لا فائدة فيه .
" المغني " ( 7 / 5 ، 6 ) .
ثانياً :
هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل هدي ، ولم تمنعه أعباء الدعوة التي يقوم بها من أن يتزوج بل إنه مات عن تسع نسوة ، ولم يمنع العلماء علمهم من الزواج ، وهكذا العبَّاد والمجاهدون ، فلا يجوز لمسلم أن يوجِد تضادّاً بين النكاح وبين قيامه بالدعوة أو طلبه للعلم أو خروجه للجهاد ، فالجيل الأول المزكَّى ومعهم نبيهم صلى الله عليه وسلم كانوا دعاة وعلماء ومجاهدين وعابدين ، وهم – في الوقت نفسه – متزوجون وبأكثر من واحدة في الغالب .
والنكاح آية من آيات الله تعالى امتنَّ الله بها علينا فقال : وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [ الروم / 21 ] ، وهو من هدي وسنن المرسَلين ، كما قال تعالى : وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ... [ الرعد / 38 ] ، وعزة الأمة الإسلامية وقوتها إنما تكون بتكثير نسلها المتربي على الخير والطاعة ، وقد رغَّب النبي صلى الله عليه وسلم بالنكاح من أجل أن تكثر هذه الأمة ويفاخر بها الأمم السابقة .
فندعو أختنا للتأمل في هذه الحِكَم والأحكام ، فلعلَّها أن تكون لبِنَة رئيسة في بيتٍ مسلم ، لتنجب ذرية طيبة صالحة .
ثالثاً :
إذا لم يكن ثمة سبب شرعي لأختنا في ترك الزواج : فإنه يجب عليها طاعة والديها فيه ، ويكون عصيانهم عقوقاً ، وإذا كان ثمة سبب شرعي : فلا يكون تركها للزواج عقوقاً ، ويحرم على والديها إجبارها على النكاح ، فرضاها وقبولها شرطٌ لصحة عقد الزواج .
قال الإمام أحمد رحمه الله ـ في رواية صالح وأبي داود ـ : " إذا كان له [ يعني : للمرء ] أبوان يأمرانه بالتزويج : أمرته أن يتزوج ، أو كان شابا يخاف على نفسه العنت : أمرته أن يتزوج " انتهى .
الآداب الشرعية ، لابن مفلح (1/434) .
وقال المرداوي رحمه الله : " على القول باستحبابه : هل يجب بأمر الأبوين ، أو بأمر أحدهما به ؟ "
فذكر كلام الإمام أحمد السابق ، ثم قال :
" فجعل أمر الأبوين له بذلك بمنزلة خوفه على نفسه العنت [ يعني : أنه واجب في الحالين ]
قال الإمام أحمد رحمه الله : والذي يحلف بالطلاق لا يتزوج أبدا ، إن أمره أبوه : تزوج "
"الإنصاف في بيان الراجح من الخلاف" (8/14) .
رابعاً :
ندعو أختنا – كذلك – لأن تفكِّر في حال والدَيها ، ولتعلم أنه بإدخالها السرور إلى قلبيْهما أنها تكون أدَّت طاعة من أعظم الطاعات لربها تعالى ، ففي زواجها موافقة للفطرة ، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وسنن المرسلين ، وفيه برٌّ لوالديها ، وفيه إدخالٌ للسرور عليهما ، فأي شيء تقوم به – الآن – من الطاعات يعدل هذا ويماثله ؟! .
ولتتفكَّر – ولو قليلاً – بحال والديْها وما يعانيه كل واحدٍ منهما بسبب تأخير زواج ابنتهما ، ولتعلم أن الناس الذين لا يتقون الله فيكم كثير ، وفي تأخيرك للزواج أو امتناعك عنه فتح باب لإطلاق السفهاء ألسنتهم طعناً في أعراضكم واتهامكم بما أنتم بريئون منه .
يقول الدكتور محمد حسن غانم – محللا مشاعر الأم التي يتأخر زواج ابنتها - :
إنها تعيش هذه المشكلة بكامل طاقتها وعصبيتها وقلقها واكتئابها ، لأنها كأم تشعر بعمق أحاسيس ابنتها .
وتعيش على حلم أن سعادتها القصوى أن ترى ابنتها في عش الزوجية ، وترى أحفادها ، ولذا فقد تنتاب الأم حالات من الاكتئاب ، وقد تلجأ إلى السحرة والدجالين ظنا منها أن ابنتها " معمول لها عمل بوقف الحال " ، وقد تلجأ إلى الدلالات في الأماكن الشعبية وعرض مشكلة ابنتها عليهن ، ووعدهن بمكافأة سخية إذا أحضرن لابنتها عريس المستقبل ، وعلى العكس من ذلك قد يكون إيمان الأم قويّاً بحيث تقول كلاماً تكون سببا في التخفيف عن ابنتها وحثها على الرضا بقضاء الله .
انتهى
ويقول الدكتور رامز طه :
إن الفتاة التي ترفض الزواج من كل رجل يتقدم لها تجعل نفسها محلا لإثارة الأقاويل والشائعات التي تسيء إلى سمعتها ، ومع الوقت لا تجد من يطرق بابها ، والشيء نفسه بالنسبة إلى الرجل حتى لو كان ذا مركز مرموق …
انتهى
ولتنتبه أختنا الفاضلة إلى ما يترتب على تأخير الزواج من مضاعفات خطيرة في جسمها ، ومنه ضعف الرحم وعدم القدرة على الإنجاب .
قال الدكتور محمد الرواشدة - أستاذ العلاج الطبيعي - :
" إن الزواج المتأخر يترافق معه عدة مشكلات متعددة في الولادة وصحة الجنين " ، وقال : " إن بعض الدراسات أكدت أن الحمل المتأخر بعد سن الأربعين يؤدي إلى ولادات مشوهة ، أما الإنجاب بعد سن الـ 35 يؤدي إلى طفل منغولي لكل 260 ولادة ، فيما تزداد النسبة بعد هذا العمر " .
وقد وجِّه سؤال للدكتور فلاح الخطيب - استشاري ورئيس قسم علاج الأورام - عن أهم العوامل والأسباب التي تساهم في حدوث سرطان الثدي ، فذكر عدة عوامل ومنها : احتمالات الإصابة به عند المرأة التي تحمل بالطفل الأول لها بعد سن الثلاثين .
خامساً :
ما قالتْه الأم الكريمة من عدم قبول الله تعالى لأعمال ابنتها إذا هي أصرَّت على فعلها : قول غير صحيح ، ولا تحبط الأعمال كلها إلا بالشرك والردَّة ، ولا يجوز أن يكون فعل ابنتكم سبباً للقسوة عليها والغلظة في التعامل معها ، ويجب عليكم التلطف في العبارة والمعاملة ، لعلَّ الله تعالى أن يهديها ويوفقها .
كما ننصح أختنا الفاضلة أن تتواضع لربها تعالى ، ولا يجوز لها التكبر على خلق الله تعالى ، ويجب عليها شكر نعمة الله عليها ، ولا يكون الشكر بالتعالي على الناس واحتقارهم ، ولتعلم أن مِن الناس مَن يكون قليل العلم لكنه عالي الأخلاق قوي الدين ، فلا تغتر بنفسها ولْتتواضع لربها ليرفع منزلتها في الدنيا والآخرة ، ولا نظن أن كل من جاء لخطبتها يستحق الرفض شرعاً ، فلتنتبه لهذا ولتسعَ في تغيير ما هي عليها للأصلح والأفضل والأعلى والأكمل .
ولتعلم أن انشراح الصدر بعد الاستخارة ليس هو العلامة الوحيدة على رد الزوج ، وعدم القبول به ، بل هو من العلامات ، فنرجو مراجعة إجابة السؤال رقم (5882).
ونحب أن نذكرك ـ أختنا الكريمة ـ أن ما جاء في جوابنا ، هو بحسب ما أداه إليه اجتهادنا ، ومبلغ علمنا ، لا أن كل رأي نراه ، أو حكم نحكم به هو حكم الله ، إلا أن يكون فيما نقوله أو نراه نص بيِّن من كتاب الله أو سنة نبيه ، صلى الله عليه وسلم ؛ فلقد كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ، ثُمَّ قَالَ : ( ... وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ ، فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ ؛ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا !! ) رواه مسلم (1731) .
قال النووي رحمه الله : " هذا النهي على التنزيه والاحتياط " .
وقال ابن القيم رحمه الله : " قال بعض السلف : ليتق أحدكم أن يقول : أحل الله كذا ، وحرم كذا ، فيقول الله له : كذبت أحل كذا ، ولم أحرم كذا .
فلا ينبغي أن يقول لما لا يعلم ورود الوحي المبين بتحليله وتحريمه : أحله الله وحرمه الله ، لمجرد التقليد أو بالتأويل " إعلام الموقعين (1/39) .
ونسأل الله تعالى أن يشرح صدوركم للحق والصواب ، وأن يهديكم لما يحب ويرضى ، وأن يرزق ابنتك زوجاً صالحاً وذرية طيبة ، وأن يؤلف بين قلوبكم جميعاً .
والله أعلم
تعليق