الحمد لله.
لم نقف في السنة النبوية على خبر يشير إلى تعرض المسجد الأقصى للهدم في آخر الزمان ، مع أن الأحاديث الواردة في أبواب الفتن ، والملاحم ، وأشراط الساعة ، وحوادث آخر الزمان كثيرة ، ولكن ليس في أي منها إشارة إلى ذلك .
والواجب على المسلمين حماية المسجد الأقصى من اعتداء اليهود الغاصبين ، الذين أفسدوا في الأرض وأكثروا فيها الفساد ، ونال اعتداؤهم الإنسان والحيوان والشجر والحجر .
نسأل الله تعالى أن يرد المسجد الأقصى المبارك إلى حوزة المسلمين .
وقد أشار بعض الناس إلى أن حديث مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( عُمْرَانُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَرَابُ يَثْرِبَ وَخَرَابُ يَثْرِبَ خُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ وَخُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ فَتْحُ قُسْطَنْطِينِيَّةَ وَفَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ خُرُوجُ الدَّجَّالِ ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى فَخِذِ الَّذِي حَدَّثَهُ أَوْ مَنْكِبِهِ ثُمَّ قَالَ إِنَّ هَذَا لَحَقٌّ كَمَا أَنَّكَ هَاهُنَا أَوْ كَمَا أَنَّكَ قَاعِدٌ يَعْنِي مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ ) رواه أبو داود (4294) .
أشاروا إلى أن في هذا الحديث تعلقا بموضوع هدم المسجد الأقصى .
ولكن الصواب أنه ليس فيه إشارة لذلك من قريب أو من بعيد ، وذلك أن :
1- الحديث مختلَف في صحته أصلا ، ضعفه بعض أهل العلم بسبب عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ، وهو ضعيف ، وقد عدَّ الذهبي هذا الحديث من منكراته ، كما في " ميزان الاعتدال " ( 4 / 265 ) ، وضعفه محققو مسند أحمد (36/352) ، وحسنه الحافظ ابن كثير والشيخ الألباني .
2- أن المقصود من قوله صلى الله عليه وسلم : ( عمران بيت المقدس ) المدينة التي تسمى اليوم " القدس " ، وليس المقصود خصوص المسجد الأقصى ، بدليل أنه قابل هذه المدينة " بيت المقدس " بالمدينة المنورة " يثرب " ، وهذا لا يلزم منه بالضرورة الحديث عن المسجد الأقصى بالخصوص .
3- كما يمكن فهم الحديث على وجهين : أن بيت المقدس تخرب ثم تعمر ، ويمكن فهمه على أن عمران بيت المقدس المقصود به كمال العمارة ، وإلا فإن بيت المقدس لا تخرب .
جاء في كتاب "عون المعبود شرح سنن أبي داود" (11/270) :
" قال الأردبيلي في " الأزهار " : قال بعض الشارحين :
المراد بـ " عمران بيت المقدس " : عمرانه بعد خرابه ، فإنه يخرب في آخر الزمان ، ثم يعمره الكفار .
والأصح : أن المراد بالعمران الكمال في العمارة ، أي عمران بيت المقدس كاملا ، مجاوزا عن الحد وقت خراب يثرب ، فإن بيت المقدس لا يخرب .
قال القاري - نقلا عن الأشرف - : لما كان بيت المقدس باستيلاء الكفار عليه ، وكثرة عمارتهم ، فيه أمارة مستعقبة بخراب يثرب ، وهو أمارة مستعقبة بخروج الملحمة ، وهو أمارة مستعقبة بفتح قسطنطينية ، وهو أمارة مستعقبة بخروج الدجال جعل النبي صلى الله عليه وسلم كل واحد عين ما بعده وعبر به عنه " انتهى .
ولا ينبغي أن يفهم من كلامنا هذا أن المسجد الأقصى يستحيل هدمه أو استيلاء اليهود عليه ، فإن هذا لم يرد في النصوص أيضاً ، وقد استولى النصارى عليه زمناً طويلاً ثم استنقذه المسلمون من أيديهم .
قال الدكتور عبد العزيز مصطفى كامل حفظه الله :
" ليس بين أيدينا نص معصوم يدل على أن هدم المسجد الأقصى ممتنع قدرا ، وليس شرطا أن ترد أحاديث الفتن بكل ما يقع ، فكثير من الحوادث الجسام وقعت دون أن تذكر آية أو ترد في حديث ، وبعضها أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه .
إن الكعبة نفسها قد هدمت من قبل – في زمن الحجاج – دون أن يكون لذلك ذكر في محكم آية أو نص حديث ، والحجر الأسود قد نزع من الكعبة – في زمن القرامطة – ونقل إلى البحرين ليظل هناك سنين عددا قبل أن يعاد ، ولم تأت الإشارة إلى ذلك في كتاب ولا سنة ، إذن فليس لأحد أن يحتج بعدم الورود على عدم الوقوع ، لأن الأمر قد يسطر في القدر ، ولا يذكر في الكتب .
والذي يحكم الأمور عند ذلك هو قانون الأسباب والمسببات الذي يجري به قدر الله بما يشاء وقوعه .
وعلى حسب مجريات الأمور المشاهدة ، فإنها شاهدة بدأب اليهود والنصارى وأخذهم بكل الأسباب المادية ، في الوقت الذي يريد المسلمون فيه أن يعطلوا قانون الأسباب ، وفي ظل ذلك لا نظن أن سنن الله تعالى ستحابي أحدا ، فماذا يفعل المسلمون في العالم كله وهم يبلغون عدديا مليارا وربع المليار؟ ماذا فعلوا عبر ما يزيد على ثلاثين عاما لكي يستنقذوا مقدساتهم من عصابة الملايين الأربعة التي زرعت بينهم ثم فرضت وجودها عليهم ؟
إن قدر الأسباب لن يحابينا ونحن نجافيه ، إلا إن أراد الله أمرا ، فقدر بسببه شأنا إلهيا محضا ينقذ المسجد ويعطل أسباب الكيد ضده ، كما رد الله كيد أصحاب الفيل لهدم الكعبة قبل الإسلام ...ولكن المشكلة أن هذا أيضا أمر لم يأت به خبر معصوم فيتكئ عليه المتكئون .
ماذا لو هدم الأقصى ؟
أتصور أن فئاما من الناس سيفتنون لو وقع الحدث ، وسيقولون ، كيف هذا والمسجد الأقصى قد نزل بشأنه القرآن ، وتواترت بفضله الأحاديث ، كيف يهدم ، وكيف يتحول إلى معبد يهودي ؟ وينبغي أن يقال لهؤلاء : إن المسجد الأقصى قد مرت عليه السنون في مرحلة من التاريخ وصلبان النصارى مرفوعة فوق مآذنه ، أيام كان الاحتلال الصليبي ، وقد كان مسجدا إذ ذاك ولم تنتف عنه صفته الشرعية ، ولا خصوصياته المسجدية ، والذي أصابه لم يتعد التلوث بأوضار التثليث ، ثم عاد لأهل التوحيد عزيزا مطهرا ، لما عادوا إلى نصرة التوحيد .
فلا بد أن يعلم أن أرض المسجد مقدسة ، ولها أحكامها الشرعية من حيث مضاعفة أجور الصلوات فيها ، واستحباب شد الرحال إليها ، سواء أكان البناء موجودا أو غير موجود ، فالساحة نفسها سميت مسجدا وقت تنزل القرآن بآيات الإسراء ، ولم يكن ثمة مسجد مقام . إن المكان أخذ حكم المسجد قبل أن يبنى مسجدا في الإسلام ، وصلى فيه إمام الأنبياء صلى الله عليه وسلم بأولي العزم من الأنبياء في أرض فضاء...فحقائق التاريخ وقصص الأنبياء تدل على أن المسجد الأقصى لم يبن مرة أخرى بعد هدمه الثاني بعيد زمان عيسى عليه السلام حتى جاء محمد عليه الصلاة والسلام ولما تم الفتح ، جاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ومعه كعب الأحبار رضي الله عنهما ليدله على موضع مصلى داود عليه السلام ، ثم بنى هناك مسجدا متواضعا من خشب ، فلما جاء عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك أعاد بناءه على الهيئة التي هو عليها الآن ، وقد حافظ المسلمون على مر العصور على هذه الأمانة ، حتى جاء عصر تضييع الأمانة الذي نعيشه ، فوقع المسجد في الأسر ، وها هو يتهدد بالهدم .
وهنا أمر تنبغي الإشارة إليه ، وهو ما ورد في الحديث الصحيح بشأن منع الدجال من دخول مساجد أربعة ، منها المسجد الأقصى ، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم : ( وعلامته : يمكث في الأرض أربعين صباحا ، يبلغ سلطانه كل منهل ، لا يأتي أربعة مساجد : الكعبة ، ومسجد الرسول ، والمسجد الأقصى ، والطور " – رواه أحمد في "المسند" (5/364) وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (13/112) - .
وهذا يحتمل أن يظل المسجد كما هو ، بحفظ الله وحده ، أو أنه سيعاد كما كان – إذا أصابه مكروه – لا قدر الله – أو أن المراد بالمسجد أرض المسجد كما في آية الإسراء " انتهى .
"حمى سنة 2000م" (ص/64-67) .
والله أعلم .
تعليق