الحمد لله.
القائف في لسان العرب هو : الذي يتتبع الآثار ويعرفها , ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي للقيافة ومشتقاتها عن المعنى اللغوي المتعلق بتتبع الأثر ومعرفة الشبه . انظر : الموسوعة الفقهية (34/92).
والقيافة وتتبع الأثر أمر معلوم ، واشتهرت به بعض القبائل ، كبني مدلج في القديم ، وقبيلة المرة في الحديث .
وإصابة الصواب فيها تعتمد على الغريزة ، والفراسة ، والمران ، ولهذا قد يذكر القائف أمورا دقيقة جدا ، ويكون مصيبا .
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله : " القيافة لا تختص ببني مرة وبني مدلج .
كان مشهورا في الحجاز بنو مدلج . والموجود الآن آل مرة ، وليسوا من بني مدلج ، ولهم الشهرة في ذلك . ويظهر توسيع الدائرة ، فالتمرن والقيافة موجودة في غيرهم من حاضرة وبادي ، فيوجد في الحاضرة أناس فيهم معرفة قوية ، وإنما الشهرة كما تقدم لآل مرة ، ولهم في ذلك من الحذق الشيء المشهور ، وبعضهم يجزمون بأشياء دقيقة شهد الواقع بصدقهم فيها ؛ لكن منهم من حذقه في معرفة السارق . وليس كل ما يجزمون به استنادا إلى الأثر . كما أن لهم توسما بالإشارة ، فلهم توسم بالفراسة ، فالذي عنده شيء من الخوف يجزمون عليه حتى يعترف ...
ومعرفة الأثر تلحق بالقيافة ، إلا أنه لا يستعمل في لحوق الأنساب ، فإنه شيء آخر ، لكن إذا احتيج إلى نظر أقدامها في الأرض صح ، لكن الشبه بالوجه ونحوه أبلغ مما سواه .
الثاني [والأول هو العمل بالقيافة في إثبات النسب] : ما يتعلق بمعرفة الجاني من سرقة أو قتل أو تهمة ، فهذا يعتمد النظر والحذق ، ويعتمد الشطارة ؛ فإن كثيرا من هذه الأمور يأخذونه لا من نفس الأثر بل لهم مِران في ذلك . وقد يصير فيهم وهم ، ووجوده فيهم أحيانا لا يسقط قولهم ؛ فإن البينة قد تغلط ... يشترط في القائف العدالة المعتبرة في الشاهد ، والقاضي ، والإمام ، والخبرة شرط " انتهى من "فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم" (9/31).
وأما الاعتماد عليهم : فالفقهاء يذكرون الاعتماد على القافة في
إثبات النسب المجهول ، كالولد الناتج عن وطء شبهة ، واللقيط ونحو ذلك .
واختلفوا في الاعتماد على قولهم في تحديد الجاني والسارق .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " وقول القافة في الأنساب معتبر ، فهل يعتبر قول القافة في الأموال ؟ بمعنى أن القائف إذا رأى قدم السارق ، وقال : هذا فلان بن فلان ، فهل يؤخذ به ، أو يقال : إنه قرينة ويؤتى بالرجل إن أقر وإلا برئ ؟ فيها خلاف بين العلماء : منهم من قال : إذا عُرف بالإصابة بالتجربة فإنه يؤخذ به ، وكما ذكرنا هؤلاء القافة ربما يشهدون شهادة على أن هذا قدم فلان بن فلان ، وليس عندهم فيه شك ، فيكون قرينة ، وفي قضية داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام : (إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ) الأنبياء/ 78، 79، استدل بالأثر على المؤثر " انتهى من "الشرح الممتع" (10/399).
وقد ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أنه يعتد بقول
القائف في المعاملات وفي الجنايات ، وذكر أمثلة لذلك : كأن يدعي شخص أنه ذهب من
ماله شيء ، ويثبت ذلك ، فيقص القائف أثر الوطء من مكان إلى مكان آخر ، فشهادة
القائف أن المال دخل إلى هذا الموضع توجب أحد الأمرين : إما الحكم به ، وإما أن
يكون الحكم به مع يمين المدعي ، وهو الأقرب ، فإن هذه الأمارات ترجح جانب المدعي ،
واليمين مشروعة في أقوى الجانبين .
وينظر : "الفتاوى الكبرى" (5/508).
والاعتماد على القافة في هذه الأمور كلها ، يرجع فيه إلى القاضي وما يراه ، وإلى وجود الشروط المعتبرة في القائف من العدالة والخبرة ، وإلى عدم وجود البينة المعارضة للقيافة .
والله أعلم.
تعليق